بحر في قنينة
استغربتُ كثيراً تلك الرسائل التي وَرَدَتني من الصديق الغزاوي عن موضوعٍ كنّا قد تباحثنا به سابقاً، واتخذنا القرار، أي إنّه لم يكن هناك داع للتكرار بعد أيّام، كما حصل في الرسائل التي وصلت إلي منه على "واتساب". كان ذلك عن محاولاتنا إخراجه من غزّة مع عائلته الصغيرة، تلك المحاولات التي باءتْ بالفشل وتبدّدت مع تدمير إسرائيل لمعبر رفح واحتلالها لمحور فيلادلفيا، خارقةً بذلك كلّ الاتفاقيات مع مصر.
كنتُ قد نصحته باسترجاع الأموال ما دام أنّ الخروج من رفح لم يعدْ مُمكناً، وصرفها على حاجاتِ عائلته في هذا الظرف الصعب، وهذا ما كان يحاول فعله من دون أن ينجح كون المصارف والصرّافات الآلية دُمّرت. فغزّة، ومثلها الضفة اليوم، تُعاني حصارًا ماليًّا، إضافة إلى كلِّ أنواع الحصار التي حاولت خنق غزّة منذ نجاح "حماس" في الانتخابات التشريعيّة الفلسطينيّة العام 2006، وصولاً إلى سيطرتها على القطاع في العام التالي.
قلت، فلأتصل به لأستفهم! فما كان منه إلّا أن ضحك تلك الضحكة الملتبسة، التي تشوبها رنّة حزن ولمحة سخرية "اليوم وصلوكي؟ هادي الرسائل كنت بعثتهم من خمسة أيام! بس على الأرجح راحوا اليوم لإنه فتح النت". ثم أردف رسالته التالية بفيديو قصير، بدا فيه بحر غزّة الرائق، وقد رسم خطاً عريضاً من الزرقة الداكنة في الأفقِ الصيفي الصافي، يُوازيه خطّ رفيع من الزبد الأبيض، ثمّ شاطئ عريض ممتد من الرمال الصفراء الساطعة، انغرزتْ فيها قدمان عاريتان هما قدما الصديق، وقد وضع عدّة أجهزة هاتفيّة على طرف طاولةٍ بلاستيكيّةٍ بيضاء، تظلّلها شمسيّة بحريّة كما بدا من ظلالها على الرمال، في حين بدا روّاد قلائل آخرون، يتجوّلون أو يجلسون على كراسي خيزرانيّةٍ مُتهالكة، كانت سابقًا لأحد المنتجعات التي عجّ بها يوماً شاطئ غزّة الرائع الجمال.
من أجل أقلّ ضروراتِ الحياة أهميّة، صارت المخاطرة بالحياة ضروريّة في قطاع غزّة
بدت اللقطة كما لو كانت من زمنٍ آخر: شمس صيفيّة ساطعة ورائقة فوق امتدادِ زرقة البحر المتقلّبة أمواجه بهدوء، يرافقها صوت الموج المبحوح لدى اصطدامه بالشاطئ برتابةٍ مُهدهِدة.
شرح لي الصديق، أنّه اجتاز مسافة طويلة "من دير البلح على هاي المنطقة البحرية بخان يونس لأن ضربوا المقسم بالمنطقة عندنا، وقالوا إنه هان على الشط بس في شبكة نت".
لا أعرف كيف كانت الطريق من دير البلح التي وردت أخبار عن قصفِ أحياءٍ فيها وسقوط شهداء، إلى خان يونس التي وردت هي الأخرى أنباء عن قصفها وسقوط شهداء من أهلها، في اللحظة التي كان فيها هذا الصديق يفتّش عن مكانٍ من الممكن أن يتواصل منه مع العالم لضروراتِ تنظيم حياته. "زمط" الصديق مرّة أخرى، من الموت. لا أعرف كيف استطاع الوصول إلى الشاطئ، لكنّي فهمت مرّة أخرى، أنّه من أجل أقلّ ضروراتِ الحياة أهميّة، صارت المخاطرة بالحياة ضروريّة في بلاده.
بعد دقائق، جاءني البحر مرّة أخرى من الهاتف، وكأنّني كنت في هذا اليوم على أكثر من موعدٍ معه. هكذا، وصل إلي فيديو بالعربيّة مترجم إلى الفرنسية والإنكليزية، نشره الموقع المستقل "مدى مصر"، وترجمه موقع "أوريان 21" الفرنسي المستقل أيضاً، عن حياة رجل من منطقة الشيخ رضوان، كان الصيد هوايته في غزّة، قبل أن يصيرَ حبل نجاته ونجاة عائلته من الإبادة جوعاً.
مهنة الصيد في غزّة كانت دائماً مهنة موت أو مخاطرة به. على الأقل منذ بدء الحصار الخانق للقطاع
يقول الرجل في الفيديو القصير من شغل الزميلين الغزاويين، علي دولّه وسعيد النجار: "فش لحمة، فش خضار، فش فاكهة، فش مواد تموينية طازجة: يا بتصيد سمك ويتطعم اولادك يا إما رح يعانوا من سوء التغذية والجوع والأمراض". ثم يستدرك "أصلا أنا بعاني منها حالياً مع ابني البكر المصاب بسوء التغذية. أحاول قدر الإمكان أن أوفر لأولادي كل إشي، لكن أساساً ما في إشي".
يحكي الصيّاد عن بحر آخر غير "بحر شبكة النت" الذي قصده صديقي. بحر تُلقى فيه شباك أخرى ملموسة للنجاةِ من الموت جوعاً. يشيرُ إلى شبكةٍ للصيد معلّقة خلفه في كوخٍ مفتوحٍ على البحر، قائلاً: "حالياً استعمل هذا الغزل (شبكة) وهي الطريقة الوحيدة المتوفرة للصيد، فالطريقة الأخرى صعبة وخطرة: بدك تطلع ع الحسكة أو القارب وترمي الشبكة. لكن، إذا تجاوزت مئة متر أو حتى أقل، يخرج الطرّاد الإسرائيلي وبيطخك".
ويضيف "في كتير ناس استشهدت في الأشهر الثلاثة الماضية بهذه الطريقة (...) تغيرت مهنة الصيد: كانت مهنة عادية صارت مهنة موت".
لكن الحقيقة التي لا يعرفها ربّما هذا الصياد الهاوي والمتحوّل إلى المهنة للضرورة، أنّ مهنة الصيد في غزّة كانت دائماً مهنة موت أو مخاطرة به. على الأقل منذ بدء الحصار الخانق للقطاع. فمع أنّ بحر غزّة قد يبدو للرائي من بعيد أنّه رئة أعطاها الله لها كي تتنفّس، إلا إنّه لا يمكن تناسي صرامة الكراهية الإسرائيلية وإيغالها في تعطيلِ وتدمير كلّ ما يمكن أن ينقذَ حياة الفلسطينيين. نيّة الإبادة لم تكن يوماً جديدة على عقل الكيان الإسرائيلي قبل 7 أكتوبر بكثير.
بحر غزة محتل أيضاً، وهو مثل أهلها مُحاصر ويتعرّض للإبادة. مأسور كرسالة استغاثة في قنينة لم يلتقطها أحد بعد
ففي زيارتي اليتيمة للقطاع بعد الثورة المصرية وفتح معبر رفح، زرتُ مرفأ الصيّادين المتواضع هناك، والتقيت نقابتهم التي شكلوها، كما قال لي نقيبهم يومها، هاني العامودي، بعد ازدياد مضايقات الاحتلال لهم في عرض البحر واستشهاد العديد من الصيّادين. يومها، قصّوا عليّ أنواع زعرنات جنود الاحتلال في البحر. كانوا يطلقون النار على الصيّادين من أسلحةٍ ثقيلة إن تجاوزوا الأميال المسموح بتجاوزها، والتي كانت قبل العام 2014، 12 ميلاً فصارت 3 أميال. وحتى إن لم يتجاوزوا، كانوا يطلقون النار على القوارب ليغرقوها، وحين يكونوا "رايقين، يكتفوا بشتمنا بكلام رذيل ما بينطاقش، وأحياناً يصادروا الغلة والعدّة. المهم ينكدوا علينا".
لكن الفعل الإبادي على المدى الطويل والأشدّ فتكاً وتدميراً كان تدمير الرزق ذاته. فبعد تضييقهم للمساحة المسموح الصيد فيها، أُجبر الصيادون على الصيد في المساحة القريبة من الشاطئ، وهي التي يضع فيها السمك بيوضه، ما يعني تدمير الثروة السمكيّة تماماً لعقودٍ قادمة.
نعم، بحر غزة محتل أيضاً، وهو مثل أهلها محاصر ويتعرّض للإبادة. مأسور كرسالة استغاثة في قنينة لم يلتقطها أحد بعد.