قولٌ في ذكرى الانتفاضة الفلسطينية

10 ديسمبر 2020
+ الخط -

كانت السنوات الأولى التي تلت الاحتلال الإسرائيلي للضفة الغربية وقطاع غزة بعد 1967، فظيعة وعنيفة. لقد احتاج الفلسطينيون في الضفة وغزة بضع سنوات لامتصاص صدمة الاحتلال، المعنوية والمادية.

وعلى الإثر، تشكلت مجموعات فلسطينية ارتجالية في الضفة وغزة لمقاومة الاحتلال. مارست هذه المجموعات حرب عصابات ضد القوات الإسرائيلية، لكن الأخيرة تغلبت عليها الضفة وطردتها إلى الأردن بنهاية عام 1969. أما مجموعات غزة فقد صمدت مدة أطول، وبلغت ذروة قوتها وبسالتها بين 1971-1972.

وإذ شرعت وطأة الاحتلال تضعف مطلع السبعينيات، فضلا عن تحسّن الوضع المعيشي بسبب الازدهار الاقتصادي الإسرائيلي، وطفرة النفط الخليجي التي انعكست بدورها على الفلسطينيين في الخليج وعلى الأردن وبالتالي على فلسطينيي الضفة وغزة، راحت الأوضاع في الضفة وغزة تهدأ نسبيا. ولكن الأوضاع في الأردن كانت على الضد من ذلك.

ذلك أن المجموعات إياها، أي المطرودة من الضفة، أخذت تنشط في المدن الأردنية وتقيم معسكرات تدريب، ثم بدأت تجذب إليها بعض اللاجئين الفلسطينيين في المخيمات، والكثير من الفلسطينيين الذين كانوا ناشطين في منظمة التحرير الفلسطينية. في بداية الأمر، تسامحت السلطة الأردنية مع التواجد الفلسطيني المسلح.

ولكن التسامح هذا لم يدم طويلا لما بدأ الفدائيون بالعودة إلى فلسطين عبر النهر من خلال منطقة الغور لتنفيذ عمليات مسلحة ضد إسرائيل من غير التنسيق مع السلطة الأردنية، فكانت لحظة الصدام العنيفة بينها وبين الجيش الأردني، ما أفضى إلى رحيلها إلى لبنان. في لبنان، تكرر السيناريو الأردني وإن على نحو فيه بعض الاختلاف، بسبب طبيعة لبنان السياسية والمذهبية. بحلول عام 1982 غزت إسرائيل لبنان، وطردت منظمة التحرير إلى تونس. في الأثناء، تعرّض الاقتصاد الإسرائيلي إلى مصاعب كبيرة انعكست على أوضاع الفلسطينيين المعتمدين بدرجة كبيرة في رزقهم على إسرائيل، ووقعت مصر السادات اتفاق سلام مع الدولة العبرية.

فبدت فلسطين بعيدة عن فلسطينيي الشتات أكثر من أي وقت مضى. ولكن من جهة ثانية، كانت الوطنية الفلسطينية تتعزز وتترسخ في الأرض المحتلة. عام 1984، تشكلت في إسرائيل حكومة وحدة وطنية بين حزبي العمل والليكود ترأسها بالتناوب إسحق شامير وشيمون بيريز. بعد ثلاث سنوات، أي عام 1987، وقّع الأخير، من وراء ظهر شامير، اتفاقا مع الملك حسين بإعادة الضفة الغربية للأردن مقابل اتفاق سلام.

فلما علم شامير بالاتفاق غضب بشدة ورفض هذه "المكيدة"، ووصل رفضه للملك حسين، فقرر الملك الرد على إفشال الصفقة بفك الارتباط بين الأردن وإسرائيل. فسُحبت الجنسية الأردنية من مواطني الضفة، وتخلى الأردن عن مسؤوليته الإدارية والقانونية والمالية، فوجدت إسرائيل نفسها أمام عبء جديد، على نحو ما انتصب الفلسطينيون شعبا، بالمعنيين القانوني والوطني. دوليا، كان الاتحاد السوفييتي في نزعه الأخير، واضمحلّ دعمه السياسي والمالي لحركات التحرر حول العالم، ومن بينها أو في قلبها منظمة التحرير الفلسطينية.

هذه كلها، العامل الاقتصادي وصعود الوطنية الفلسطينية في الداخل وفك الارتباط الأردني بالضفة والعامل الدولي (ضعف الاتحاد السوفييتي) آذنت باندلاع الانتفاضة الفلسطينية في 9 ديسمبر 1987. شرارة اندلاع الانتفاضة كانت دهس شاحنة إسرائيلية عمالا فلسطينيين قرب حاجز إيريز بقطاع غزة في 8 ديسمبر، أدت إلى مواجهة عفوية في مخيم جباليا، ومن ثم امتدت المواجهات في بعض مدن غزة ولم تلبث أن تبلورت في حركة جماهيرية واسعة ومنظمة في طول فلسطين وعرضها. بعد يومين فقط من حادث الشاحنة، أي في 11 ديسمبر، ظهر مصطلح "الانتفاضة" أول مرة في بيان لحركة المقاومة الإسلامية حماس المتشكلة للتو.

لكن الكاتب الأردني فهد الفانك زعم مرة أن الإعلام الأردني هو أول من أطلق تسمية الانتفاضة على حركة الاحتجاج الفلسطينية. وكائنا ما كان الأمر، أمر الاسم، الذي يصعب الجزم به، يبقى أن الحركة الجماهيرية الفلسطينية سرعان ما تبنت الاسم، الذي دخل اللغة الإنكليزية أيضا. وفي ذلك دلالة على أن الحركة الجماهيرية هذه كانت منذ اللحظة الأولى تعي ذاتها وتعي عدوها وتعرف ما تريد وما لا تريد. إذّاك، لم يكن في وسع العالم سوى الاعتراف بوجود شيء اسمه الشعب الفلسطيني. وللناظر من علٍ أو من بعيد، تبدو الانتفاضة هبّة فوضوية لشباب يقذفون قوات الاحتلال بالحجارة. ولكن الأمر أعقد من ذلك بكثير.

ذلك أن "الفوضى" الخارجية للانتفاضة كانت مصفوفة من الأفعال شديد التنظيم، لها منطقها الداخلي غزير المعاني والطقوس والإشارات. هذا المنطق كان شديد الإعجاز، وذلك بالنظر إلى غياب وسائل الاتصال نهاية الثمانينيات، وغياب التلفزيونات الفضائية وضعف الصحف في الأرض المحتلة وطبعا سيطرة إسرائيل وقمعها الذي عُرف بسياسة تكسير العظام التي ابتدعها وزير الدفاع آنذاك، إسحق رابين.

برز التنظيم في كل فعاليات الانتفاضة: من الكتابة على الجدران وإعلان الإضرابات وصياغات البيانات التي تنعى الشهداء، مرورا بحياكة الأعلام وأماكن رفعها و"العروض العسكرية" وتوزيع البصل على راجمي الحجارة للوقاية من الغاز السام، وصولا إلى وضع المتاريس لإعاقة سيارات الجيش وحرق الإطارات، وليس انتهاء بالنسوة اللائي كنّ يتولين إرشاد الشباب إلى تحركات جيبات الجيش ليتفادوها، ومن ثم طقوس التشييع ونقل المصابين إلى المستشفيات. هذا كله امتد على مدى ست سنوات إلا قليلا، وهو مدى غير مسبوق في التاريخ الحديث. وهو ما أثمر عن اعتراف عالمي بالفلسطينيين ووافقت إسرائيل للمرة الأولى على الجلوس معهم على طاولة المفاوضات.

صحيح أن الثمر بعد ذلك، في أوسلو، كان شديد المرار. غير أن الصراعات من هذا النوع لا تقاس بالسنوات، ولا تحسمها كبوة هنا أو جولة هناك. وغني عن البيان أن الانتفاضة، شأنها شأن أي فعل عنيف من هذا الصنف، لم تحظ بدعم كل فئات الشعب. وعلى رأس الفئات المعارضة كانت برجوازيات المدن، التي ناهضت الانتفاضة لأسباب رجعية أحيانا وبراغماتية أحيانا أخرى و "فلسفية" في بعضها. ولكن، لئن لم يستطع الفلسطينيون انتزاع حقهم في الحرية والحياة، يبقى أن إسرائيل لم تستطع أن تبتلعهم. الانتفاضة الأولى كانت بمثابة التنبيه الأول إلا أن الأمر ليس بالسهولة التي تصوّرتها الصهيونية أواخر القرن التاسع عشر.

AD28D8DD-82CD-4359-9B77-8FE9B653247D
AD28D8DD-82CD-4359-9B77-8FE9B653247D
هشام غانم

كاتب عربي مقيم في الأردن، كتب في عدة صحف ومواقع إلكترونية وساهم في تأسيس وتحرير بعضها. عبرتُ منتصف العمر ولا زال لديّ توق جارف للحياة. أحاول، أسعى، أتعلّم. منشغل انشغالاً أزلياً في عقد تسوية مُرضية بين قلبي وعقلي. ليس لي قضية سوى الخروج من هذه الحياة بأقل الخسائر، ومساعدة الخاسرين على الصبر على خساراتهم. ولكنّه ليس صبراً عاجزاً، بل صبر استراتيجي، أو هكذا أعزّي نفسي!

هشام غانم