تأملات في الثورة اللبنانية
هشام غانم
كاتب عربي مقيم في الأردن، كتب في عدة صحف ومواقع إلكترونية وساهم في تأسيس وتحرير بعضها. عبرتُ منتصف العمر ولا زال لديّ توق جارف للحياة. أحاول، أسعى، أتعلّم. منشغل انشغالاً أزلياً في عقد تسوية مُرضية بين قلبي وعقلي. ليس لي قضية سوى الخروج من هذه الحياة بأقل الخسائر، ومساعدة الخاسرين على الصبر على خساراتهم. ولكنّه ليس صبراً عاجزاً، بل صبر استراتيجي، أو هكذا أعزّي نفسي!
عن السلاح
ارتبك المماليك عندما ووجهوا بالسلاح الناري العثماني، واعتبروا البواريد والبنادق سلاحاً غير موضوعي وغير عادل. فقال بعضهم إن البارودة هذه، إذا رمت بها امرأة أصابت كذا رجلاً. أي إن السلاح الجديد هذا، يُبطل معنى الشجاعة والبسالة والبأس الشديد، ويضيع الفرق بين الرجل الشجاع والرجل الجبان. هذه الفكرة على بساطتها وسذاجتها ربما، هي المنطلق الذي يُبدأ منه عند نقاش مسألة السلاح. بكل بساطة، نحن الشعب الأعزل من السلاح، في مواجهة جرابيع وأميين لا يستطيع واحدهم قراءة سطرين أو صياغة جملة مفيدة. لكنهم مسلحون. نزع سلاح هذه المخلوقات هو المدخل لبدء الحياة من جديد. فبعد نزع السلاح تتصارع الأفكار لا فضل لفكرة على فكرة إلا بقوة منطقها واتساقها مع العقل. يُنزع السلاح، ثم نختلف على أي شيء وكل شيء. الحل الآخر الذي لا أفضله، هو أن نتسلح جميعاً، مثل الأميركيين، فتتساوى قوة الردع لدى جميع الأطراف ويفقد السلاح غلبته.
غموض الثورة
الثورة حدث غامض بقدر ما هو واضح. أي إننا كلما حاولنا فهمه ازداد غموضاً. لا يعني ذلك أنه سحر أو ينتمي إلى العالم الماورائي. بالعكس، إنه حدث شديد المادية. أحد أسباب غموض الثورة، أنه ما من ثورتين متطابقتين. لكن مع ذلك، هناك أربعة أشياء نعرفها على وجه اليقين عن الثورات. الأول، أن الأصل في الثورات الفشل. معدودة على أصابع اليد الواحدة الثورات التي نجحت. ولذا، فشل الثورة ليس مدعاة للبكاء واليأس. الشيء الثاني هو سبب فشل الثورة، وهو سبب يكاد ينطبق على كل ثورة فاشلة. تفشل الثورة عندما لا يعرف الثوار متى يتوقفون لحماية ما أنجزوه وتقويته وحراسته والبناء عليه. إذا كسبت شبر أرض في الثورة، فحافظ عليه ولا تتقدم خطوة قبل تأمين هذا الشبر. إذا شتمت الزعيم، فلا تخفّض سقف الشتم بعد ذلك. العجز عن الحفاظ على أي إنجاز يؤدي غالباً إلى انهيار سريع، ومن هنا جاءت المقولة الشهيرة "الثورة تأكل أبناءها". الشيء الثالث، أن الثورة إذا كانت، تعريفاً، فعلاً راديكالياً، فلا يعني ذلك أن وسائلها يجب بالضرورة أن تكون راديكالية. بل يُستحسن أن تكون براغماتية ما دامت تنتمي إلى السياسة. هذه البراغماتية هي ما جعل الثورة الأميركية إحدى أنجح الثورات، وتمخضت عن إحدى أعظم الوثائق في التاريخ الحديث، أي الدستور الأميركي. الثورة الأميركية انفردت في كونها بدأت محافظة أو رجعية حتى، فيما بقية الثورات كانت تبدأ ليبرالية وتقدمية. لكن مع الوقت، بسبب البراغماتية الأميركية الشهيرة، باتت الأكثر تقدماً. ففي أميركا فقط، الشعب أقوى من الحكومة.
الشتائم الجنسية
على سيرة الشتائم الجنسية في المظاهرات اللبنانية، يبدو أن اللغة العربية فقيرة وقصيرة الباع في هذا المضمار، مضمار الشتائم الجنسية، مقارنةً باللغات الأخرى. اللغة الروسية، مثلاً، "أستاذة"، إذا جازت العبارة، في الشتم الجنسي. فهذا الأخير متغلغل في لغة الشارع والسجون، وأكثر مكان شاع فيه هو معتقلات الغولاغ الرهيبة في سيبيريا إبان العهد الستاليني، بل إنه انتقل حتى إلى الأوبرا والأدب والغناء الشعبي. ولكنّ جذوره تضرب عميقاً في التاريخ، وربما كانت تعود إلى حقب وثنية. وعلى خلاف اللغات الأخرى، الشتم بالروسية يقتصر على الشتم الجنسي فقط ويتمحور حوله وينغمس فيه.
وإلى هذا، البذاءة الجنسية بالروسية ليست بالضرورة أن تكون إهانة أو هجوماً أو امتعاضاً من شيء أو شخص. فهي متعددة الاستعمالات والمستويات، ولها خاصية للتعبير، عدد كبير من المشاعر والانفعالات بأقل الكلمات الممكنة، على ما زعم الروائي الروسي فيودور ديستويفسكي. وهذه الكلمات هي أعضاء الرجال والنساء الجنسية، وكل كلمة تلائم موقفاً معيناً. البذاءة الجنسية الروسية إذاً ليست مجرد لغة، بل فلسفة كاملة. وهو ما دفع نائب رئيس مجلس الدوما الروسي، كاديرول أليكسيفيتش، مطلع الألفية، للدعوة إلى سنّ مشروع قانون يجعل الروسية اللغة الرسمية للبلاد. وهو ما يعني تجريم التحدث باللغة الجنسية البذيئة، فتشيع في النهاية الأخلاق الحميدة بين الناس.
وقد سبق لكاترين العظيمة أو الثانية، إمبراطورة روسيا منتصف القرن الثامن عشر، أن حاولت باستماتة نشر الأخلاق الحميدة أيضاً ومنع استعمال البذاءة الجنسية في الخطابة والكتابة، ولا سيما كلمة "عاهرة". الروائي الأوكراني نيكولاي غوغول لطالما فُرضت الرقابة على كتاباته وحُذفت منها الكلمات الخاصة بالأعضاء الجنسية، ولا سيما كلمة pizda أي عضو المرأة. شاعر روسيا الكبير، بوشكين، بدوره كتب قصيدة بعنوان "القيصر نيكيتا وبناته الأربعون"، يصف فيها فقدان 40 فرجاً أنثوياً. تعرضت القصيدة للمنع أيضاً.
ورغم أن السلطات السوفييتية لم تكن راضية عن شيوع البذاءة الجنسية بين الروس، إلا أن الجنود السوفييت استعملوا هذا الأسلوب في التعبير أثناء الحرب العالمية الثانية، ولا سيما في قتالهم مع النازيين. بل إن الرياضيين حتى استعملوه سلاحاً ولغة تواصل في المسابقات الرياضية، وذلك في مباريات الهوكي بين الاتحاد السوفييتي وكندا. وعندما انهار الاتحاد السوفييتي بداية التسعينيات، اكتشف القراء الروس جبالاً من الشتم الجنسي في روايات الكتّاب المنشقين، ولا سيما في روايات أليكساندر سولجنيتسين.
ولكن الطبقات العاملة في روسيا، والاتحاد السوفييتي قبلها، هي الأكثر استخداماً للفحش الجنسي، من غير أن يعني ذلك عزوف الطبقات الأعلى عن ذلك. وفي هذا السياق، تروي نكتة من الحقبة السوفييتية أن مصنعاً كان يعمل بكفاءة ونظام وبلا أي خلل. وذات مرة زارت لجنة من الحزب المصنعَ، ولكنها غادرت ممتعضة من شيوع البذاءة الجنسية. ووصل الامتعاض ذاك إلى مدير المصنع الذي أبلغه بدوره إلى العمال. فلما عادت اللجنة في زيارة ثانية للمصنع، غادرت سعيدة بعد أن تلاشت اللغة البذيئة. إلا أن الإنتاج في ذلك اليوم انخفض إلى الصفر. فلقد تبيّن أن لغة التواصل بين العمال كانت لغة جنسية بحتة، إلى حدّ أن العمال كانوا يسمّون أجزاء الآلات في المصنع بأسماء أعضاء النساء والرجال الجنسية.
كاتب عربي مقيم في الأردن، كتب في عدة صحف ومواقع إلكترونية وساهم في تأسيس وتحرير بعضها. عبرتُ منتصف العمر ولا زال لديّ توق جارف للحياة. أحاول، أسعى، أتعلّم. منشغل انشغالاً أزلياً في عقد تسوية مُرضية بين قلبي وعقلي. ليس لي قضية سوى الخروج من هذه الحياة بأقل الخسائر، ومساعدة الخاسرين على الصبر على خساراتهم. ولكنّه ليس صبراً عاجزاً، بل صبر استراتيجي، أو هكذا أعزّي نفسي!