توازن ناش
هشام غانم
كاتب عربي مقيم في الأردن، كتب في عدة صحف ومواقع إلكترونية وساهم في تأسيس وتحرير بعضها. عبرتُ منتصف العمر ولا زال لديّ توق جارف للحياة. أحاول، أسعى، أتعلّم. منشغل انشغالاً أزلياً في عقد تسوية مُرضية بين قلبي وعقلي. ليس لي قضية سوى الخروج من هذه الحياة بأقل الخسائر، ومساعدة الخاسرين على الصبر على خساراتهم. ولكنّه ليس صبراً عاجزاً، بل صبر استراتيجي، أو هكذا أعزّي نفسي!
في صيف عام 1994، وتحديداً في 23 يونيو/حزيران، وقع أمر جلل. ففي مساء ذلك اليوم، قرر المدرب الإيطالي الشهير أريغو ساكي إخراج روبيرتو باجيو في الدقيقة الـ22 من الشوط الأول في المباراة التي كانت تخوضها إيطاليا مع النرويج، ضمن مرحلة المجموعات في مونديال أميركا 94. والأمر جلل لأن باجيو كان آنذاك نجماً عالمياً ساطعاً، بل النجم الأسطع في العالم، ولا يغامر باستبداله إلا مدرّب مجنون أو... عبقري.
حارَ العالم وقتها في صنع ساكي وذُهل من غير أن يجد تعليلاً شافياً، كنا أطفالاً على مشارف المراهقة آنذاك. وكانت مصاطب الحارة وأسوارها القصيرة وعتبات البيوت تتحول إلى استوديوهات تحليلية بكل ما في الكلمة من معنى، غداة كل مباراة من ذاك المونديال.
فحرنا مع الحائرين وانخرطنا، بعد المباراة إياها، في نقاشات عميقة وساخنة عسانا نستطيع تأويل إخراج باجيو. فلم نشكّ في أن "ساكي حمار". وحصل هذا بالإجماع. لكنّ أحد الأولاد، وكان أكبر منا قليلاً، مرّ بنا فسمع ما اعتقدنا أنه يقين لا يتطرق إليه الوهن، ولم يلبث أن قدّم تفسيراً شديد التماسك والاتساق لخطوة إخراج باجيو. ولعلّ ذلك راجع إلى أن أخويه كانا لاعبين محترفين في نادي الجزيرة الأردني.
فأدلى صاحبنا بدلوه وقال إن إخراج باجيو في الدقيقة 22 كان خطوة عبقرية من المدرب ساكي، ذلك أن "باجيو، بصفته نجم الفريق الأول ومايسترو الفريق. فكانت كل كرات زملائه تتجه إليه، وكان ذلك يخلق بطئأً في حركة الفريق الكلية، من جهة؛ ويكدّس اللاعبين الإسكندنافيين حول باجيو، من جهة ثانية. ولما كان الفريق النرويجي مستميتاً في الدفاع أو لا يفعل شيئاً سوى الدفاع، ولما كانت إيطاليا قد هُزمت في مباراتها الأولى أمام آيرلندا؛ كان ساكي بحاجة إلى هدف مبكر يحسم المباراة قبل فوات الأوان، فأخرج باجيو وحقق هدفين: الأول تسريع إيقاع اللعب بين لاعبيه، وتقليل التكدس النرويجي الدفاعي حول المنطقة التي كان يصول فيها نجم إيطاليا الأول". والنتيجة كانت فوز إيطاليا على النرويج 1-0.
سنعرف لاحقاً أن تحليل صاحبنا كان مستقى مما يُعرف بـ"مفارقة برايس". ففي أواخر الستينيات لاحظ "عالم" الرياضيات الألماني برايس ديتريتش أن إضافة طريق جديد إلى شبكة طرق مزدحمة يؤدي، بخلاف ما يوحي الحدس والبديهة، إلى إبطاء حركة المرور وزيادة وقت الرحلة الكلية لسائقي السيارات، ذلك أن السائقين، مدفوعين بأنانية بشرية متأصلة، سوف يتجهون في الحال إلى الطريق الجديد، وهو ما سيعني تدافعاً في الطرق الفرعية والتقاطعات يؤدي بدوره إلى اختناقات في الطريق الجديد نفسه. ولكنّ الطريق الجديد بحد ذاته ليس خطأ، المشكلة هي في السلوك البشري المعقد الذي لا يمكن دائماً السيطرة عليه أو التنبؤ به.
ملاحظة برايس مبنية في الأساس على شيء يُدعى في نظرية الألعاب "توازن ناش"، المنسوب إلى عالم الرياضيات جون فوربس ناش. فاللعبة تصل إلى "توازن ناش"، عندما يختار كل لاعب استراتيجية معينة من غير أن يستطيع أي لاعب أن يستفيد من تغيير استراتيجيته، بينما يحافظ بقية اللاعبين على استراتيجياتهم بلا تغيير.
أو بكلمات أبسط، يصل مجموعة من اللاعبين إلى توازن ناش عندما يتخذ كل واحد منهم أفضل قرار ممكن، آخذاً في الاعتبار قرارات بقية اللاعبين ما داموا محافظين عليها بلا تغيير.
ففي شبكة الطرق المزدحمة، يختار كل سائق الطريق التي يراها الأسرع والأقصر، واضعاً في اعتباره المسارات التي سيسلكها بقية السائقين، والمعروفة سلفاً لدى الجميع وبلا تغيير. شبكة المرور في هذه الحالة ستصل إلى توازن ناش.
أما في الاقتصاد المعولم، فيمكن النظر إلى الاقتصادات الصناعية أو المنتجة عموماً كشبكة من الطرق، تقوم فيها البضائع والسلع مقام تقاطعات الطرق، فإذا شُقّ "طريق" جديد في الشبكة، كأن يكون مثلاً فرض تعرفة جمركية؛ على ما فعل دونالد ترمب مؤخراً عندما فرض تعرفة هائلة على البضائع الصينية؛ اهتزت الشبكة وفقدت كفاءتها السابقة بعد أن كانت في وضع توازن.
لكن الأمر في الاقتصاد أعقد طبعاً من شبكة الطرق ومباريات كرة القدم وإن كان ذلك لا يلغي جوهر الفكرة أو المقاربة. ففي بداية فرض التعرفة الجمركية يحدث انتعاش زائف في البلد الذي فرضها، يتبعه ركود مديد، ذلك أن البلد هذا يبدأ بتقليل الشراء من الخارج وتزيد الشركات فيه ضخ الأموال في السوق الداخلي، ثم تعود الشركات الأميركية من الخارج لتعمل في أميركا، وهو ما يولّد فرص عمل جديدة ويحرّك السيولة. ثم إن الأمر هذا غالباً ما يترافق مع تقليل الضرائب، أي زيادة الإنفاق والاستهلاك الداخلي. ولكنّ هذا كله مؤقت. فبعد القليل من الوقت، تطل الكارثة برأسها.
فعودة الشركات الأميركية من الصين والمكسيك إلى أميركا، تعني أن مصاريف قوة العمل ستتضاعف 4 مرات على الأقل، ذلك أن الدخل الشهري للعامل الأميركي المحترف يفوق نظيره الصيني بأضعاف، ما يفضي إلى ارتفاع أسعار السلع الذي سيضر في النهاية بالمستهلك المحلي.
لكنّ الطامة الكبرى هي أن هذا كله سيخفف الطلب الصيني على الشراء من الخارج، فالاقتصاد الصيني إذا لم يصدر، لن يستورد، ثم أن الصين، بصفتها "مصنع العالم" والشريك الاقتصادي الأكبر لكل دول شرق آسيا، ويبلغ مقدار النمو فيها ثلث النمو العالمي؛ الصين هذه تشتري من الخارج بتريليونات، فأنت في هذا العالم شديد التعولم، لا تستطيع أن تغلق الباب على نفسك وتمتنع عن الشراء من الآخرين، لأن هؤلاء يشترون منك أيضاً. فالأسواق كذلك، قبل صعود ترمب، محكومة بتوازن ناش.
ترمب طبعاً ليس غبياً أو غير مدرك لهذا كله، بل يعلم تماماً النتيجة الكارثية لفرض التعرفة الجمركية على الصين بالذات، لكنّ ترمب يعرف أيضاً أن الكارثة تحتاج إلى سنتين على الأقل للظهور قبل ذلك، وبفضل الانتعاش الاقتصادي الزائف الذي يخبئ ركوداً قد يفوق ما حصل في أزمة 2008؛ سيحصل على ولاية ثانية.
أي أن الأمر ليس مجرد خيار أيديولوجي عند الحزب الجمهوري الأميركي، فهذا الحزب أصلاً لا يكره شيئاً أكثر من تقييد الأسواق وفرض الجمارك، أما ترمب فليس لديه أيديولوجية أصلاً سوى دونالد ترمب، أي عبادة ذاته.
الأمر ببساطة أن رجلاً مثل ترمب، لا يمل من تأليه نفسه، يريد أن يُنتخب لولاية ثانية ولو أدى ذلك إلى خراب العالم. حاله حال ذاك الذي لا يتورع عن إحراق البيت من أجل أن يشعل سيجارة.
كاتب عربي مقيم في الأردن، كتب في عدة صحف ومواقع إلكترونية وساهم في تأسيس وتحرير بعضها. عبرتُ منتصف العمر ولا زال لديّ توق جارف للحياة. أحاول، أسعى، أتعلّم. منشغل انشغالاً أزلياً في عقد تسوية مُرضية بين قلبي وعقلي. ليس لي قضية سوى الخروج من هذه الحياة بأقل الخسائر، ومساعدة الخاسرين على الصبر على خساراتهم. ولكنّه ليس صبراً عاجزاً، بل صبر استراتيجي، أو هكذا أعزّي نفسي!