في مجالس شيخي الحكيم
عبد الحفيظ العمري
شيخي رجلٌ طاعنٌ في السن، لكنه خَبَرَ الناس، وعَلِمَ تقلبات الزمان، وله في الحكمةِ باعٌ طويل، وأنا أرزوهُ بين الفينةِ والأخرى لأتزوّدَ من حكمته. هو الآن، معتكفٌ في خلوته يتعبّد بالتفكّر، ويرى أنّ تلك العبادة أهملها كثيرٌ من الخلق. وهنا أوردُ بعضاً مما دار في مجالسه.
(1)
سألتُ شيخي: من أين يأتي الملل؟
قال: من الرتابة.
قلتُ: كيف ذلك؟
قال: الرتابة هي ممارسة الأعمال بطريقةٍ خاليةٍ من الاهتمام، فتكون ممارسةً بلا جُودة ولا إتقان، مجرّد إنجاز عمل لا غير، وكأنّ العمل حمل ثقيل على الأكتاف نريد أن نرميه.
قلتُ: ولكنّنا يا شيخي، نُمارس أعمالنا بهذه الطريقة، لأنّ المطلوب منّا هو دوام وظيفي له بدء وانتهاء، وكلّ ما يهم الإدارات لدينا هو إنجاز الأعمال، كيفما اتفق.
قال: هذه العبارة بالذات (كيفما اتفق)، تمثّل مربط الفرس في الموضوع.
قلتُ: كيف؟
قال: ليس الموضوع هو ممارسة العمل، إنّما كيفية ممارسته؛ لذا فعبارتك (كيفما اتفق) تفيد بأنّ الموّظف يُمارس العمل، على أيّة صورة كانت، فلا إجادة ولا هم يحزنون، لأنّ المطلوب منه العمل، لا إتقانه، ثم نشكو من الملل!
ليس الموضوع هو ممارسة العمل، إنّما كيفية ممارسته
قلتُ: هكذا تسير الأمور في دوائرنا الحكومية، وربّما حتى الخاصة.
قال: لذا نحن في ذيلِ الأمم. أليس الأحرى بنا أن نكون صادقين في أعمالنا؟!
قلتُ: إنّ الموّظف في عالمنا العربي، مجرّد ترس في ماكينة كبيرة اسمها الحكومة، وهو قد يتم توظيفه في مجالٍ ليس ضمن تخصّصه، و... إلخ.
قاطعني شيخي قائلاً: ولِمَ يتم توظيفه في مجالٍ ليس ضمن تخصّصه؟ ولِمَ يقبل هو ذلك؟
قلتُ: لا معايير لدينا في التعيين للوظائف؛ بل يتعامل القائمون على الوظائف وكأنّها عطايا يوزّعونها مكرمةً منهم على المتقدّمين للتوظيف، فتكون معايير المحسوبية والوساطات، في الكواليس، هي السائدة! أمّا المتقدّمون، فالواحد منهم سيقبل أيّ شيء، المهم أن يلتحق بمصدرِ عيشٍ له ولمَنْ يعيل!
ضرب الشيخ كفاً بكف، وقال: إذا كانت هذه طريقة الالتحاق، فلا غرابة إذا ما أنجز الموظف العمل المطوب منه كيما اتفق، كما ذكرت آنفاً. هذا إن أنجز العمل أصلاً!
ترى الواحد منّا يقبل أيّ شيء، المهم أن يلتحق بمصدرِ عيشٍ له ولمَنْ يعيل
ثم استطرد قائلاً: قال رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ إِذَا عَمِل أَحَدُكُمْ عَمَلاً أَنْ يُتْقِنَهُ"، تخيّل لو طبّقنا هذا الحديث؟ الإتقان روح الكون هذا كلّه.
قلتُ: روح الكون، كيف؟
قال: نعم؛ فالله سبحانه وتعالى يقول: {وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ} (النمل: 88).
فالله أتقن كلُّ شيء صَنَعه، ومن ذلك كوننا الذي نعيش فيه، لذا تراه جاء على أحسن صورةٍ ممكنة.
(2)
مما أدركت من أقوال شيخي الحكيم: الحقُّ لسانُه أفصحُ نُطقاً من الباطل، ومهما علا صوت الباطل، فذاك العلو لا يجعله حقاً، إنّما خفت صوتُ أهل الحق لضعفهم، حتى يظن المفتونون أنّ الباطل انتصر، لكن الله سيقيّضُ مَنْ يرفع راية الحق، ولو بعد حين... لذا، إذا لم تستطعْ أنْ تجهرَ بالحق، فلا تُناصرْ الباطل.
(3)
مما أوصاني شيخي:
إياك، يا بُنيّ، والاستماع للعدو الكامن في ثياب صديق، من المثبِّطين، الذين يبثون روح الانهزام بين الناس، تحت مسميّات خدّاعة، كالعقلانية والعصرانية، وغيرها من مصطلحات رنانة..
وانظر معي، ما عاقبة أن تسري هذه الروح بين الناس في وقتٍ يحتاجون فيه أن يثقوا بأنفسهم، كي يستطيعوا أن يواجهوا أعداءهم المتكالبين عليهم؟