عاميّتنا الفصحى
عبد الحفيظ العمري
لكل شعب لهجته التي يتحدث بها في كل مناحي حياته اليومية الاعتيادية، وهذه اللهجة تمثّل طوراً من أطوار لغته القومية، وقد تختلف، لا أقول كليةً، عن اللغة الرسمية التي يكتب بها مراسلاته الرصينة، ففي حالتنا العربية، تمثّل العربية الفصحى لغتنا الرسمية في أغلب وسائل الإعلام، في حين تمثل لهجاتنا المحلية لغة الشارع المتداولة في كل بلد عربي، ونطلق عليها اسم اللغة العامية؛ لأن العوام هم مَنْ يتحدثون بها، أو الدارجة، أو المحكيّة.
سأسميها العاميّة في مقالي هذا..
إنّ ما وقر في الأذهان أنّ العاميّة ليست فصيحة، لأنها درجة أقل من الفصحى..
وهنا أقف متسائلاً: ما هو المعيار الذي يحدد عاميّة اللفظة من فصاحتها؟ هل وجود اللفظة في قواميس اللغة، مثل لسان العرب وتاج العروس وغيرها، يجعلها فصيحة؟ أم أنّ تحرر اللفظة من قواعد النحو بالتسكين أثناء تركيبه مع ألفاظ أخرى يجعلها عاميّة؟
كم تحفل قواميس اللغة بألفاظ كثيرة قد اندثر استخدامها، إلى جانب أن ليست كل ألفاظ العربية محتواه في تلك القواميس، إنما ما استغرقه جهد المؤلف في جمع تلك الألفاظ؟!
أما قواعد النحو والصرف، فتطبيقها يمكن إيقافه أو إجراؤه، فهل تتلون اللفظة بين فصيحة وعاميّة بذلك؟
لا ريب أنّ الرسمية في محافل الفقهاء والنحاة أثناء التدوين في العصر الأموي هي التي هيمنت على تصنيف الألفاظ بين فصحى وعامية، فدّونوا الفصحى منها متجاهلين العاميّة التي لم تكن لغةً للحوار الرسمي في محافل اللغة، كخطبة الجمعة وشواهد الأشعار والأثار، لكنّ هذا لا يمنع من وجود لهجة شعبية دارجة متحررة من كل تلك القواعد، بل وعاشت معاصرة للفصحى، وقد استطاعت تلك اللهجة النفاذ إلى أدبنا العربي، ومنْ يقرأ كتاب ألف ليلة وليلة أو السِيَر الشعبية، كالزير سالم أو عنترة أو حمزة البهلوان أو غيرها، سيجد أثر ذلك.
وما حواراتنا اليوم في مجالسنا ومقايلنا وأسواقنا إلا امتداد تلك العاميّة التي تناقلتها الأجيال المتعاقبة.
الطريق إلى العاميّة
نجد الألفاظ مرت بمراحل تدرّجت فيه حتى وصلت إلى محكياتنا اليومية، فسُمّيت عاميّة لأنها لغة العوام مقابل الفصحى لغة الخواص؛ فاللفظة أول عهدها قد تكون فصحى ثم لوّنتها البيئة وصبغتها بصبغتها كالنطق المغاير للأصل والتصحيف الذي يعتريها من إبدال بعض الحروف المتقاربة مثل القاف والكاف أو الميم والنون وغيرها.
ومن العاميّة ما هو فصيح في الأزمنة السابقة، لكن الذين صنّفوا أنّ الفصيح هو لهجة قريش على الاعتبار السائد أنّ القرآن نزل بلغة قريش، وهذا قول فيه نظر، تركوا وراء ظهورهم لهجات العرب الأخرى المعاصرة للهجة قريش، مثل لهجة هوازن وهذيل وتميم وأسد وحمير وغيرها مما نطق بها القرآن نفسه؟ وقد أفرد الإمام السيوطي في كتابه الإتقان في علوم القرآن فصلاً (فيما وقع فيه، أي القرآن، بغير لغة الحجاز)، وعزا كل لفظ إلى أصله غير القرشي، مثل: سامدون، بعل، مراغم … إلخ.
وفي اللهجات العاميّة ألفاظ جاءت من لغات الأقوام التي غزت الأرض العربية عبر تاريخها، فاستمدّ منها العامة ألفاظاً نطقوها بلسانهم العربي وكتبوها بالأحرف العربية كما هي أو جرى لها تصحيف، إلى جانب ما ورثته شعوبنا العربية من ألفاظ حضاراتها المنقرضة كالسبئية والفرعونية والسومرية وغيرها مما بقي في ذاكرة الأجيال.
لهجتنا العامية
وهنا أصل إلى العاميّة اليمنية، أين موقعها من مقاييس الفصيح؟
الواقع أن عاميّتنا، بمختلف أماكنها الجغرافية، لا تبتعد عن الفصحى كثيراً إذا استثنينا كلمات المستعمرين الذين غزوا اليمن من فرس وترك وأحباش وإنكليز، وما خلفته حضارتنا الغابرة من ألفاظ سبئية وحميرية وغيرها، لكن هذا لم يمحُ عن لهجتنا العاميّة فصاحتها التي يستخدمها العوام دون أي دراية لهم بذلك، وهذا نموذج من هذه الألفاظ:
- • لفظة (حَيْد)، التي نقصد بها الجبل، جاء في مقاييس اللغة: الحَيْد: النادر من الجَبَل، والجمع حُيُودٌ وأحياد.
- • لفظة (جَشَرَ) أي: كَحَّ هي فصحى؛ جاء في لسان العرب "جشر، أي أخرج أنفاسه" ورجل مجشور، أي به سعال.
- • لفظة (حاسِر) أي: تعبان، فعلى الرغم من أنّ مدلولها هو كاشف الرأس، إلا أنّها تأتي أيضاً بمعنى التعب والإعياء، وقد نطق بذلك القرآن الكريم؛ قال عزّ وجل: }ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ{ [الملك: 4].
- • لفظة (مَبْصَرَة)، والتي تعني نظّارة، فما الفرق بينهما؟ وما هو الأحسن مبْصرَة أم نظّارة؟ وماذا تقول المعاجم؟
لفظة مبْصرَة مأخوذ على قياس العرب في اشتقاق اسم الآلة من الفعل الرباعي (أبْصَرَ) على وزن مفْعلَة، والتي تفيد معنى الآلة خصوصاً، في حين لفظة (نظّارة) مأخوذ من الفعل الثلاثي (نظر) على وزن فعّالة، والتي تفيد التكثير في الآلة، لكن النظر هو توجيه العين إلى الشيء المراد رؤيته، في حين البصر هو تحقيق هذا النظر، فقد تنظر ولكن لا تبصر؛ يقول الراغب الأصفهاني في غريبه: "ويُقال نَظَرْتُ إلى كذا: إذا مَدَدْتَ طَرْفَكَ إليه رَأَيْتَهُ أو لم تَرَهُ"؛ جاء في الذكر الحكيم: {فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لَا تُبْصِرُونَ} [الواقعة: 83-85]، وقوله عز وجل: {وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لَا يَسْمَعُوا وَتَرَاهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ} [الأعراف: 198]"؛ فالبصر أقوى من النظر، لذا مَبْصَرَة آلة تقوم بعملها في التدقيق أفضل من النظّارة.
- • لفظة (بَلَس) أي: تين، وهي كلمة سبئية (بلسن)، لكنها فصيحة؛ جاء في اللسان "البلس التين أو ثمر التين والواحدة منها بَلَسَة".
- • لفظة (قوّارة)، وهي كساء مدور يُغطى به الخبز، هي فصيحة مأخوذة من قوراء أي: دائرية؛ لأنّ التقوير مثل التكوير، مثل التدوير، كلها تدل على الالتفاف.
- • لفظة (مِحْواش)، وهي أداة تستخدم لتحريك الطعام الحار على النار، وجاءت بصيغة اسم آلة من الفعل (مَحَشَ)، و"امتحش الخبز أي احترق"؛ جاء في الحديث "مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ مِنْ إِيمَانٍ فَأَخْرِجُوهُ، فَيَخْرُجُونَ قَدْ امْتُحِشُوا وَعَادُوا حُمَماً"، وقال المتنبي:
وشوقٌ كالتوقّد في فؤادٍ / كجمرٍ في جوانحَ كالمحاشِ
والمحاش ما أحرقته النار.
- • لفظة (مُبَرْطِمْ)، وهو الغاضب والعابس؛ جاء في اللسان "البَرطمة عبوسٌ في انتفاخ".
- • لفظة (شَرَغَ)، نقول في مضارعه: يَشْتَرِغ، التي: تعني يختنق بالأكل أو الماء؛ الكلمة بالقاف "شَرَق"، وليس الغين، وهذا تصحيف، جاء في مقاييس اللغة: قولهم: شَرِقَ بالماء، إِذا غَصَّ به شَرَقَاً.
قال المتنبي:
وَلَقَدْ بَكَيْتُ على الشَّبابِ وَلمّتي / مُسْوَدّةٌ وَلِمَاءِ وَجْهي رَوْنَقُ
حَذَراً عَلَيْهِ قَبلَ يَوْمِ فِراقِهِ / حتى لَكِدْتُ بمَاءِ جَفني أشرَقُ
هذا غيض من فيض الألفاظ التي ننطقها، وقد أحسن الشاعر الراحل عبدالله البردّوني في تدوين أمثالنا الشعبية وردها إلى أصلها العربي في كتابه (الثقافة الشعبية.. تجارب وأقاويل)، وكذلك ما قدّمه الدكتور عباس السوسوه في كتابه (دراسات في المحكية) من ألفاظ عاميّة وأصلها العربي.