في مجالس شيخي الحكيم

30 ديسمبر 2024
+ الخط -

شيخي رجلٌ طاعنٌ في السن، لكنه خَبَرَ الناس، وعَلِمَ تقلبات الزمان، وله في الحكمةِ باعٌ طويل، وأنا أرزوهُ بين الفينةِ والأخرى لأتزوّدَ من حكمته. هو اليوم معتكفٌ في خلوته يتعبّد بالتفكّر، ويرى أن تلك العبادة أهملها كثيرٌ من الخلق. وهنا أوردُ بعضاً مما دار في مجالسه.

(1)

سالتُ شيخي: أين نجد السعادة؟

قال: في البساطة.

قلتُ: كيف؟

قال: تعقيدات الحياة كثيرة، لكنّ تخلصك منها بأن تحيا على الفطرة، وببساطة، في كلّ شيء يورّثك السعادة.

قلتُ: لكن الإنسان يرى سعادته في أن يعمل ما يحبّ، ولذا فهو يكنز المال، أو يبحث عن المنصب، أو غيرها من الوسائل لكي يعمل ما يحب.

قال: لن أقول لك لا تكنز المال، ولا أن تترفّع عن المناصب، ولا شيء من ذلك، لكني أسألك: هل من لديهم أموال طائلة سعداء؟ وهل أصحاب المناصب الرفيعة سعداء؟

قلتُ: ليس جميعهم بالطبع، لكن لديهم وسائل تجعل حياتهم غير متعبة، فالمفترض أن يكونوا سعداء.

قال: تذكّر أنّ الشعور بالسعادة أمر نسبي بين البشر؛ فما يُسعدك قد لا يُسعد غيرك.

قلتُ: ربما، لكن المال عَصَبُ الحياة، ولا أظنّ أنّ هناك أحدًا لا يُسعده توفّر المال بين يديه.

الشعور بالسعادة أمر نسبي بين البشر؛ فما يُسعدك قد لا يُسعد غيرك

قال: أتفق مع عبارتك "المال عَصَبُ الحياة"، ووجوده بين يديك خيرٌ من كونك مفلساً، وأنا لستُ من دعاة الزهد، غير أني أختلف معك في ربط السعادة بوفرة المال.

قلتُ: وكأنك تقول لي: كن بلا مال تكن سعيداً؟!

قال: لا، أبداً، ما هذا قصدي، لكني أرى السعادة نابعة من الإنسان نفسه، وليس من امتلاكه أدوات تجعله سعيداً.

- لم أفهم.

- السعادة، كما اتفقنا سابقاً، أمر نسبي؛ فهناك مَنْ يسعده وفرة المال، وهناك مَنْ يسعده المنصب، وهناك مَنْ تسعده راحة البال... إلخ. فقد تجد بسطاء ينامون براحة بال لا تجدها عند ساكني قصور. ليست السعادة أمر نتفق عليه تماماً.

- لكن هؤلاء استثناء من القاعدة، فكما لا يسعد كلّ الأغنياء، فكذلك لا يسعد كلّ الفقراء.

السعادة نابعة من الإنسان نفسه، وليس من امتلاكه أدوات تجعله سعيداً

- صدّقني لا توجد قاعدة ثابتة لموضوع السعادة، حتى نقول إنّ هؤلاء استثناء من القاعدة، ولنا في قصة الملك والصيّاد عبرة.

قلتُ: وما قصة الملك والصيّاد؟

- زعموا أنّ ملكاً ملَّ من مكوثه في قصره، فخرج متنكراً يطوف على رعيته، فمرّ على شاطئ البحر ووجد صيّاداً هناك، وبعد السلام بادر الملك الصيّاد بالسؤال: أيها الصيّاد، هل أنت مرتاح البال؟

قال الصيّاد: نعم، وما الذي لا يجعلني مرتاح البال؟

قال الملك: ألا تخشى عدم قدوم رزق الغد لك ولمَنْ تعول؟

قال الصيّاد: ولِمَ يغشاني الهم، والله الذي رزقني اليوم سيرزقني غداً؟!

قال الملك: قد يتأخر الرزق أو يقلّ في الغد.

قال الصيّاد: الأمر كلّه بيد الله، وما دام معي رزق اليوم، فغداً يأتي ورزقه معه، قلّ أو كثر.

قال الملك: ألا تريد أن يكون لك منصب أو جاه بين الناس؟

قال الصيّاد: وما حاجتي بالمنصب ومشاغله، وأنا رزقي في هذا البحر الفسيح؟

قال الملك: ألا تحبّ أن يكون لك مالٌ وفير يكفيك عناء الصيد ومتاعبه؟

قال الصيّاد: هَبْ أنه صار لي مالٌ وفير، فماذا سأعمل به؟

ضحك الملك وقال: كيف ماذا ستعمل به؟ تمتّع نفسك، وتعمل به ما تريد.

قال الصيّاد: ها قد قلت بنفسك: أعمل به ما أريد، وأنا أريد أن أعمل صياداً، فما حاجتي للمال؟!

فانصرف الملك.

***

(2)

مما أدركتُ من أقوال شيخي الحكيم: مهما اشتدّ الظلام الذي يحجب الرؤية عن كليلي البصر فإن الخير قادم لا محالة. لكن هذا الخير لن يبصره إلّا الصادقون مع أنفسهم وأمتهم، والواقفون حقيقةً إلى جانب قضايا هذه الأمة بدون أدنى متاجرة أو مزايدة بهذه القضايا المصيرية.

عبد الحفيظ العمري
عبد الحفيظ العمري
عبد الحفيظ العمري
كاتب ومهندس من اليمن، مهتم بالعلوم ونشر الثقافة العلمية. لديه عدّة كتب منشورة إلكترونيا. الحكمة التي يؤمن بها: "قيمة الانسان هي ما يضيفه للحياة ما بين حياته ومماته" للدكتور مصطفى محمود.
عبد الحفيظ العمري