في الأسف والاعتذار عما "لم" نقترفه من أخطاء وخطايا

12 يونيو 2024
+ الخط -

أنا آسف، لكنني لا أعتذر!

بعد فترةٍ وجيزةٍ من انطلاقِ احتجاجات سبتمبر/أيلول الإيرانيّة عام 2022، التقيتُ بعددٍ من الصبايا والشباب من إيران وأفغانستان، في مؤتمرٍ أكاديميٍّ أو فكريٍّ في سويسرا. وحصل معي، خلال ذلك اللقاء أو المؤتمر، موقفان طريفان، متناقضان ومتكاملان.

فالصبايا الإيرانيات تحدّثن بحماسةٍ ووعيٍ شديدين عمّا أَسمينه، حينئذٍ، بالثورة ضدَّ استبدادِ النظام الإيراني. وقد عبّرت لي إحدى الصبايا الإيرانيات عن سرورها، لأنّني لم أحمّلها أو أحمّل الشعب الإيراني مسؤولية جرائم نظامه الاستبدادي المجرم بحقِ السوريّات والسوريين. فأكدتُ لها أنّني ممتنٌ ومسرورٌ لوجودِ أمثالها، وأتعاملُ إيجابًا مع كلّ الرافضاتِ والرافضين للاستبداد، بغضّ النظر عن أيّ اعتبارٍ آخر. وكدتُ أن أعتذر لها عن مواقف بعض السوريين والسوريّات الذين واللواتي يحمّلون الشعب الإيراني مسؤوليةَ جرائمِ نظامه المستبد، لكنّني لم أفعل، واكتفيت بقول "أنا آسف (لكنني لا أعتذر)!"

مع الصبايا الأفغانيات كان الوضعُ مختلفًا. فقد كنَّ من الهارباتِ من نظامِ طالبان، ويُمثلن الوجه الراقي والأخلاقي من أفغانستان، بعيدًا عن وجهِ طالبان، وعن الصورةِ النمطية السلبيّة السائدة عنهن، وعن أفغانستان، عمومًا. وكنتُ أشعر أمامهن بشيءٍ من الشعورِ بالذنب بسبب تذكري لفرحِ "المجلس الإسلامي السني"، وما يُماثله من "الإسلام السياسي المعتدل" بوصولِ طالبان إلى السلطة، وقيامه بإصدارِ تهنئةٍ وبيانٍ خاصٍّ في هذه المناسبة "العظيمة". كدت أن أعتذر أكثر من مرّةٍ عن وجود هذا المجلس، وعن فرحه وتهنئته، لكنّني لم أفعل، واكتفيتُ بقول "أنا آسف (لكنني لا أعتذر)!"

الصبايا الإيرانيات تحدّثن بوعيٍ شديدٍ عن وجوب وحدة الصف، وأظهرن توجّهاتٍ نسويةً عظيمةً

الصبايا الإيرانيات تَحدّثن بوعيٍ شديدٍ عن وجوبِ وحدة الصف، وأظهرن توجّهاتٍ نسويةً عظيمةً، لكنّني شعرتُ بشيءٍ من القلق في أن يكون هناك بعدٌ سلبيٌّ كبيرٌ في تلك النسوية. فقد خشيت أن تكون من نوع "النسوية المضادة للرجال"، والتي تجعل الرجل يشعرُ بالذنب، وبضرورةِ الاعتذار، لمجرّد كونه رجلًا. لكن خشيتي تبدّدت، حين أظهرت إحدى الباحثات، في إحدى جلسات النقاش، وعيًا عظيمًا، من وجهةِ نظري، وتمثّل ذلك الوعي في تشديدها من ناحيةٍ، على خصوصيةِ الظلم الذي تتعرّض له المرأة، وفي إشارتها، من ناحيةٍ أخرى، إلى أنّ الرجل الأفغاني يتعرّض لظلمٍ لا يقل سوءًا، كمًّا وكيفًا، عن المرأةِ الأفغانية. مع العلم أنّ وضع النساء في ظلّ الحكم الطالباني الإسلامي هو "الأسوأ على المستوى العالمي". وفي كلّ الأحوال، تمّ التشديد على أنّ البعد النسوي في النضال (يجب أن) يتكامل مع أشكال النضال الأخرى، ولا (يجب أن) يتعارض أو يتنافس معها. وينبغي للرجل، في مثل هذه السياقات، أن يشعر بالأسف ويعبّر عنه، من دون أن يشعر بضرورةِ الاعتذار عنه.

عندما لا يكون الاعتذار "كافيًا"

"الاعتذار ليس كافيًا" هذا ما قاله متظاهرو هونغ كونغ الذين كانوا، في عام 2019، يطالبون باستقالةِ الرئيسة التنفيذية لهونغ كونغ، كاري لام، بسبب طريقةِ تعاملها مع مشروعِ قانونٍ مُقترحٍ لتسليم المتهمين إلى الصين لمحاكمتهم. الرئيسة المذكور قدّمت تنازلاتٍ كبيرةً، وأجَّلت مشروع القانون إلى أجلٍ غير مسمى. ومع ذلك، وجدَ المتظاهرون أنّ خطأها أكبر من أن يتم تجاوزه بمجرّد الاعتذار. في المقابل، وفي "المقلب العربي/ السوري" تجد كثيرين ممن ارتكبوا أخطاء بل خطايا وجرائم، يرفضون أن يعتذروا عنها أو حتى الاعتراف بها، بل ويحاضرون على الآخرين في الأخلاق والنقاء والسمو الأخلاقي.

من حقِّ الجميع أن يُخطئ، لكن الاعتراف بالخطأ والاعتذار عنه هو أقل ما يُمكن فعله في معظم الحالات، وربّما كلّها. ولا يعطي الاعتذار الشخص المخطئ الحقّ في المطالبة بتجاوزِ خطئه، وكأنه لم يكن موجودًا. وفي المقابل، من الجميل والإيجابي غالبًا تقبّل الاعتذار والمسامحة والتسامح عمومًا. وتبقى كلّ حالةٍ فرديةٍ ذات خصوصياتٍ ينبغي أخذها بعين الاعتبار.

من الممكن دائمًا التفكير في "إمكانية" قبول أيّ اعتذار، لكن من الضروري، قبل ذلك، وأثنائه، التأكّد من كونه اعتذارًا بالفعل

والوضع المثالي، في حالِ ارتكاب الشخص بعض الأخطاء أو الخطايا تجاه شخصٍ آخر، هو أن يكون هناك قانون وقضاء يحاسبه ويجبره على دفعِ ثمن خطئه/ خطيئته، أو طريقة تقلّل من إمكانية تكراره تلك الأخطاء أو الخطايا. ويمكن أن يترافق ذلك مع ضغطٍ اجتماعيٍّ، بموازاةِ القضاء/ مؤسسات الدولة، أو بمعزلٍ عن ذلك القضاء، في حال لم يكن له دورٌ إيجابيٌّ، لسببٍ ما.

إلى جانب إصلاح الضرر والتعويض عنه، فإنّ اعتذار الشخص عمّا فعله وإقراره بخطئه أمر ضروريٌّ وكافٍ، عمومًا. وينبغي، في هذا الخصوص، تجنّب اللجوء إلى عمليات استبطان مشاعر الآخرين ونواياهم واعتقاداتهم، واشتراط تغيّرها. وفي مواجهةِ ظواهر اجتماعية سلبية يُعتقد أنّها واسعة الانتشار، ينبغي لنا التركيز على الحدِّ من وجودها قدر المستطاع. وعندما يعتذر أحد ممارسي تلك الظواهر، ويعلن أنّه ضدَّ هذه الظاهرة، وأنّه يعتذر عن ممارسته السابقة لها، ينبغي للمجتمع أن يحفظ لذلك الشخص خطّ الرجعة. لكن ينبغي أن يكون ذلك الاعتذار حقيقيًّا، بحيث يتضمّن اعترافًا بالخطأ وعدولًا عنه. ويمكن أن يكون موقف الشيخ حمزة يوسف من السوريين وثورتهم مثالًا نموذجيًّا لتوضيح ذلك الأمر.

"لا" اعتذار الشيخ حمزة يوسف من السوريين

بعد عامين من تصريحاته التي سبق أن أدلى بها عام 2017، في خصوصِ السوريين وثورتهم، حيث سخر منهم وقال إن "من يذِّل السلطان يذله الله"، وإنّ السوريين الذين رفعوا شعار "الشعب السوري ما بينذل" قد أصبحوا مذلولين، ويطلبون العون واللجوء... إلخ، ظهر الشيخ حمزة يوسف في فيديو جديدٍ يعلن فيه اعتذاره عن تصريحاته السابقة المذكورة، ويطلب الصفح ممّن شعروا بالإهانة منها.

من الممكن دائمًا التفكير في "إمكانية" قبول أيّ اعتذار، لكن من الضروري، قبل ذلك، وأثنائه، التأكّد من كونه اعتذارًا بالفعل، ومن ماهية مضمونه وتفصيلاته. فالشيخ حمزة يوسف اعتذر "لأنّه تطرق بالحديث إلى منطقة يشعر الآن بالندم لخوضه فيها". فهو نادمٌ، لخوضه الحديث في هذا الموضوع، وليس لمضمون كلامه، في هذا الخصوص. وهو يطلب المغفرة من أيّ شخصٍ أساء فهم ذلك، وشعر بالإهانة من تعليقاته، لأنّ هذه لم تكن نيّته مطلقًا. فهو يعتذر عن إساءة الآخرين لفهم كلامه، وليس عن مضمونِ كلامه، بحدِّ ذاته. وهو يؤكد أنّه لم يكن في نيّته أيّ شيء سلبي. أي إنّ اعتذاره المزعوم لا يتضمّن أيّ اعترافٍ بارتكابِ أيّ خطيئةٍ أو خطأ، بالمعنى الأخلاقي للكلمة. كما لم يشر إلى وجود أي مضمون سلبي في كلامه السابق. فهو يعتذر عن آثار كلامه، وعن سوء فهم الناس له، وليس عمّا قاله فعلًا!

الاعتذار يتضمّن الإقرار والاعتراف بأنّ الشخص قد أخطأ فعلًا، مع تحديد مكان ومكمن الخطأ بدقةٍ ووضوحٍ

هذا النوع من الاعتذارات سائدٌ، في "الثقافة العربية"، كثيرًا، للأسف، وهو يفتقدُ إلى الحدِّ الأدنى من سماتِ الاعتذار. فالاعتذار يتضمّن الإقرار والاعتراف بأنّ الشخص قد أخطأ فعلًا، مع تحديد مكان ومكمن الخطأ بدقةٍ ووضوحٍ، بحيث لا نحيله أو نرده إلى أشياء ثانوية ونتجاهل الخطأ الأساسي، ولا نحاول إيجاد مبرّراتٍ أو مسوّغاتٍ تجعلنا غير مسؤولين عنه.

كان مطلوبًا من الشيخ يوسف أن يعتذر عن توظيفه النصوص الدينية في خطابٍ مليء بالشماتة والسخرية من السوريين ضحايا النظام. وكان ينبغي له أن يقرّ بأنّ خطابه السابق مؤيّد صراحة لـ"السلطان الأسدي". وكان ينبغي أن يوضح رأيه حاليًّا في النصوصِ الدينية التي استشهد بها ليقولَ بوجوبِ عدم إهانة السوريين "سلطانهم الأسدي". لكنه لم يفعل ذلك كلّه، بل استمر في لعبةِ توظيف النصوص الدينية في خطابه، وليجعلها تقول عكس ما كانت تقوله النصوص الدينية التي استشهد بها في المرّة الماضية!

حسام الدين درويش
حسام الدين درويش
باحث ومحاضر في الفلسفة والفكر العربي والإسلامي. يعمل باحثاً في مركز الدراسات الإنسانية للبحوث المتقدمة "علمانيات متعددة: "ما وراء الغرب، ما وراء الحداثات" في جامعة لايبزغ، ومحاضراً في قسم الدراسات الشرقية، في كلية الفلسفة، في جامعة كولونيا في ألمانيا. حائز على شهادة الدكتوراه من قسم الفلسفة في جامعة بوردو ٣ في فرنسا. صدر له عدد من الكتب والمؤلفات، وينشر باللغتين العربية والانكليزية. يعرّف عن نفسه بالقول "لكلّ إنسان صوت وبصمة، ولكلّ شيء قيمة ومعنى".