"في الأخلاق، يمكن للتفكُّر تدمير المعرفة" أو تعزيزها
قبل بداية عامي الدراسي الأول في قسم الفلسفة في جامعة تشرين سخر أحد تجار المفروشات في اللاذقية – كنت أجلب له بضاعة من حلب حيث كنت أعمل نجارًا – من الملابس التي ترتديها "بنات الجامعة" وقال لي بما معناه: "كلهن تقريبًا كالراقصات وفتيات الليل بما في ذلك المحجبات ...!".
لاحقًا قالت لي مرة إحدى صديقاتي "المحجبات" في الجامعة إنها تعتقد أنه من غير اللائق قليلًا للفتاة أن تكون بلا حجابٍ في الجامعة، فالحجاب يحميها من أن تكون فتنة ومطمعًا ويحميها من القيل والقال! صديقة أخرى "غير محجبة" أشارت لي مرةً إلى أنها لا ترى مناسبًا ان ترتدي الأنثى تنورة في الجامعة، لأنها تجعل حركتها مقيدة وغير عملية عمومًا. صديقة أخرى كانت ترتدي تنورة "لتحت الركبة" قالت لي حينها أيضًا إن لبس الفتاة للتنورة أفضل بكثير من لبس البنطال، لأنها تحافظ بذلك على مظهرها الأنثوي ولا تبدو في مظهرها كالرجال (لم نكن على اطلاع على التنانير الإسكتلندية الرجالية أو لم نتذكرها)؛ لكنها أبدت امتعاضًا من التنانير القصيرة (جدًّا) التي ترتديها صديقةٌ أخرى، في بعض المناسبات والحفلات. وهذه الصديقة الأخيرة كانت تبدي علنًا قرفها من وكل الناس، عمومًا ومن كل الفتيات خصوصًا، المحافظات و"أمينات الفروع" اللواتي لا يستحسن ما تلبس، وكانت تقول إن معظمهن "عاهرات متخفيات".
مع مرور الزمن وازدياد التعارف بين الصديقات المذكورات، تخلت معظمهن عن (معظم) تلك الأحكام (المسبقة)، وأصبحن أقل ربطًا لأحكامهن الأخلاقية بنوع الملابس التي يرتديها الآخرون. وفي حالاتٍ كثيرةٍ، لم يحصل هذا التغيير بطريقةٍ عفويةٍ، بل جرى بعد نقاشاتٍ مطولةٍ، وتفكير أو تأملٍ في تلك الأحكام وفي الأسس التي تنطلق منها. وبهذا المعنى يمكن القول إن التفكر أو التأمل الذاتي يمكن أن يعزز المعرفة الأخلاقية ويدعمها، ولا يقتصر دوره على تدميرها وزعزعتها كما يرى برنارد وليامز في قولته الشهيرة "في الأخلاق، يمكن للتفكر أن يدمر المعرفة".
التفكر يمكن أن يدمر المعرفة الأخلاقية بإظهار نسبيتها الزمكانية والثقافية واختلاف المنظورات المعقولة التي يمكن تناولها من خلالها، وافتقار بعضها، على الأقل، إلى أسسٍ معرفيةٍ ومعطياتٍ واقعية تسوِّغ تبنيها بعموميتها وشموليتها المظنونتين. لكن، كما هو الحال في كل عملية بناءٍ، يمكن لهذا التدمير أن يكون مرحلةً مؤقتةً او خطوةً ضروريةً للوصول إلى أخلاقٍ أكثر انفتاحًا على الآخر، وأكثر قبولًا وتقبلًا للاختلافات في المسائل المحشورة في الأخلاق عنوةً، كالملبس والمأكل والأمور الخاصة بالأفراد بالدرجة الأولى، والتي لا تشكل إساءةً (أخلاقيةً) مباشرةً وواضحةً ومقصودةً بأي طرفٍ آخر. وباختصار يمكن للتفكر أن يجعل أخلاق الفرد المتفكر أكثر أخلاقية.
التفكُّر والتفكير لا يفضيان بالضرورة إلى زعزعة المعارف والأحكام الأخلاقية الوثوقية، بل قد يكونان وسيلتين تدعمهما
صحيحٌ أن التفكر قد يجعلنا أقل وثوقيةً وأكثر ارتيابًا واضطرابًا في خصوص معارفنا الأخلاقية، لكن قد يكون هذا ثمنا ضروريّا للتخلي عن أحكامنا الدوغمائية أو الوثوقية والتي تصدر قبل إجراء محاكماتنا الأخلاقية التي لا تنتهي. والإفراط في الأخلاقوية المتمثلة في كثرة محاكماتنا الأخلاقية للآخرين، والمدينة لاختلافاتهم عمومًا، علامةً سلبيةً تدل على تحول الأخلاق إلى سيفٍ مسلَّطٍ على الرقاب المعنوية للناس، وعلى تحول الناس إلى ضحايا للأخلاق، بدلًا من أن تكون الأخلاق إنسانيةً، ومن أجل الإنسان، بالدرجة الأولى، كما يفترض كثيرون.
والتفكُّر والتفكير لا يفضيان بالضرورة إلى زعزعة المعارف والأحكام الأخلاقية الوثوقية، بل قد يكونان وسيلتين تدعمهما. وعلى هذا الأساس، نجد، على سبيل المثال، "مفكرًا سوريًّا" (فراس السواح) يرى، في منشورٍ فيسبوكيٍّ، أن حجاب المرأة هو حجابٌ لعقلها أو عليه بالضرورة، ونرى، في المقابل، مفكرًا مغربيًّا (طه عبد الرحمن) يرى أن أخلاق المسلم أقوى بالضرورة من أخلاق الغربي، وأن الأخلاق بوصفها تعاملًا مع الذات، حكرٌ على المسلمين أو المؤمنين فقط. ويمكن فهم أو تأويل قولة محمد عبده المشهورة "رأيت في أوروبا إسلاماً بلا مسلمين، وأرى في بلادي مسلمين بلا إسلام"، بطريقتين مختلفتين. فمن ناحيةٍ أولى، يبدو أن هذا القول يتضمن الاعتقاد باحتكار الإسلام لكل الأخلاق الحميدة، وأنها تبقى أخلاقًا إسلاميةً حتى عندما يتبناها أشخاصٌ غير مسلمين أو حتى غير مؤمنين. ومن ناحيةٍ ثانيةٍ، يمكن تأويل القولة المذكورة على أنها تتضمن الاعتقاد بوجود أخلاقٍ إنسانيةٍ عالميةٍ، يتشاركها المسلمون مع غير المسلمين ومع غير المؤمنين أيضًا. وفي كل الأحوال، يتضمن هذا القول نقدًا استباقيًّا لأطروحات وائل حلاق وآخرين ممن رأوا أن الحداثة ممثلةً بالدولة الحديثة عديمة الأخلاق أو مفصولة عنها فصلًا كاملةً.
الفلسفة وفقًا للمعنى الحرفي للكلمة اليونانية تعني "حب الحكمة". لكن هذا التعريف الأولي، لم يمنع الكثير من الفلاسفة من ادعاء بلوغ الحكمة، وامتلاكها والجزم بذلك. في المقابل، يرى آخرون أن مرحلة حب الحكمة أو الحقيقة والشغف بها والتطلع إليها أكثر حكمةً بكثيرٍ من مرحلة امتلاكها المزعوم. وانطلاقًا من ذلك، يمكن القول إن تسرب الشك والاضطراب في نفوسنا، نتيجةً للتفكير والتفكُّر في معارفنا الأخلاقية وغير الأخلاقية ليس أمرًا سيئًا بالضرورة، بل قد يكون أكثر أخلاقيةً وحكمةً وفلسفيةً وفائدةً، نظريةً وعمليةً، من معرفتنا الوثوقية الساكنة أو الراكدة في بحر أو مستنقع اليقين المفكَّر به بدون أن يُفكَّر فيه.