فيلم "لا مكان للعجائز".. أو القسوة فقط

18 سبتمبر 2023
+ الخط -

يميل المخرجون إلى اختيار الفضاء بعناية فائقة، كما فعل قبلهم الروائيون، وقبلهم أيضاً الرسامون. مشهد صغير، لكن كل شيء فيه معبر بدقة عالية، جميع موضوعات المشهد يجب أن تكون متناسقة، وتخدم الغرض الأساس نفسه، هذا ما يجعل بعض الأفلام تتفوق على أخرى، كما يجعل بعض الكتاب يتفوقون على آخرين أيضاً، مدى قدرتهم على ملاحظة التفاصيل الدقيقة، وتوظيفها لخدمة الغرض العام للعمل، إذ حسب ما تخبرنا السيكولوجيا، وخصوصاً مفهوم اللاوعي، فإن الدماغ يسجل كل شيء، حتى تلك التفاصيل التي لا نستطيع ملاحظتها في لحظاتنا الواعية، واحد من أعظم الأفلام التي رأيتها، ولفت انتباهي دلالة الفضاء فيه، إن صح هذا التعبير، هو فيلم "لا مكان للعجائز".

لو لم أشاهد الفيلم للمرة الثانية، لما انتبهت لتلك التفاصيل، والحقيقة أنني حينما أدركت ذلك، خامرتني حالة من المشاعر غير طبيعية، وأنا أردد كيف لهذا العبقري أن يبني هذه اللوحة الفنية بهذه الدقة، وما راقني في الفيلم أكثر، هو أنه ذو نفس أدبي، إذ العمل مقتبس عن رواية تحمل العنوان نفسه، للكاتب الأميركي المشهور كورماك مكارثي، قبل أن يقوم الأخوان تومي لي جونز بتحويلها إلى فيلم عام 2007، أحداث الرواية تدور في ولاية تكساس على الحدود مع المكسيك، وتعالج قضية المهربين الذين يتاجرون بالمخدرات، وتعود أحداث الفيلم إلى الثمانينيات من القرن الماضي.

اختيار مكان الصحراء لتصوير الفيلم، كان له دلالة كبيرة، كما أننا نلاحظ أن جميع المشاهد تقريباً، خالية من كثرة الناس

معظم مشاهدي الفيلم يشيدون بالعمل الجبار الذي قام به الممثل الإسباني خافير بارديم، فقد لعب دور أحد المرضى النفسيين، وكان عمله مدهشاً بالفعل، غير أنه بالإضافة إلى عمل الممثلين، اختيار الفضاء كان له دلالة أيضاً، فهو يتلاءم مع تيمة القصة، وهي باختصار، عن صياد يجد شاحنة مملوءة بالمخدرات، وحقيبة تحتوي على مبلغ مليوني دولار، يختار الصياد أخذ الحقيبة التي تحتوي على المال، لكنه حينما أراد النوم، لم يستطع الاستسلام إلى النوم، وذلك لأنه رأى شخصاً ما زال على قيد الحياة فعاد لإسعافه، غير أن هذا الخطأ سيكون ثمنه حياته، بعد مطاردة استمرت لأيام، لا مكان للعاطفة هنا.

اختيار مكان الصحراء لتصوير الفيلم، كان له دلالة كبيرة، كما أننا نلاحظ أن جميع المشاهد تقريباً، خالية من كثرة الناس، جل المشاهد تبدو خالية من الناس، كل ذلك حتى تكون المشاهد أكثر قسوة، فقط قانون الصيد هو الذي يسود، صائد وطريدة فقط، خلو المشد من كثرة الناس، حتى لا تكون أي مشاهد للعاطفة في الفيلم، فقط الخلاء، حتى في أحد المشاهد الغريبة، حينما يستعطف أحدهم القاتل، غطى وجهه ثم قتله، حتى لا ينظر إلى عينيه، وبالتالي يتعاطف معه، هذا بالإضافة إلى أن المشاهد مصورة في مدينة خالية، نزل خال أيضاً، مشاهد أغلبها مصور ليلاً.

في مشاهد أخرى أكثر دلالة أيضاً، حينما يضرب الصائد ويضطر للمساعدة، يدفع لذلك مقابلاً، رغم أنه كان جريحاً وربما قد يثير استعطاف الآخرين، لكنه مع ذلك يضطر لدفع المساعدة، والعنوان الأبرز هو لا عاطفة هنا، في المشهد الأخير أيضاً، حينما يضرب القاتل هو الآخر وتكسر يده، يأتي إليه طفلان، يسألهما المساعدة، ويصر أيضاً على دفع المقابل، رغم أنهما امتنعا عن قبولها بداية، لكنه يصر على دفع المساعدة، حيث كل شيء هناك بمقابل.

قد لا ننتبه ربما لهذه التفاصيل الصغيرة، لكنها دوماً تظل موجودة هناك، وكما سلف فإن هذا ما يميز عبقرية مخرج عن آخر، وهو القدرة على إدراج التفاصيل الصغيرة لخدمة الهدف العام للعمل، كما أن هذا أيضاً يحيلنا إلى فهم الطبيعة البشرية، وكيف أن للبيئة دوراً فيها، وهذا ما جعل المفكرين من قديم الزمن يولون هذا الأمر اهتماماً كبيراً، وأستحضر بهذا الصدد مقدمة ابن خلدون فقد استفاض في هذا الأمر، أعني تأثير البيئة والطعام على شخصية الإنسان.

أنهيت الفيلم وأنا أتساءل ما الذي يجعل الأشخاص يتحولون إلى قتلة متسلسلين؟ لماذا كثر أو يكثر هؤلاء في العصر الحديث فقط؟ ولم ربما يكثرون في أميركا أكثر من غيرها؟ هل لهذا الأمر علاقة بالطبيعة الديموغرافية للساكنة في أميركا؟ أم ترى أن الأمر له علاقة بطبيعة الحضارة المعاصرة، ونمط العيش فيها؟ أم أن كل ذلك صحيح؟

سفيان
سفيان الغانمي
باحث في الفكر الإسلامي، حاصل على الإجازة في علم النفس، وباحث في سلك العالمية العليا التابع لجامع القرويين بفاس، مدون مهتم بالفكر والأدب. يعرّف عن نفسه بالقول: "حبر الطالب أقدس من دم الشهيد".