فلسفة ضد الحكمة
كان يؤمن جدًّا بالحكمة القائلة "من جدَّ وجد، ومن سار على الدرب وصل"، وزاد إيمانه بها بعد أن أفضى جده الدراسي إلى تفوّقه في سنته الأولى في الجامعة، حيث حصل على المعدل الأعلى بين زملائه. ولم يكن ذلك غريبًا، لأنّه كان مصمِّمًا على التفوّق في دراسته، ويخطّط مسبقًا للاستمرار في الدراسات العليا والحصول على شهادة الدكتوراه في الفلسفة بعد إنهاء مرحلة الإجازة الجامعية. ثم حصل ما لم يكن في حسبانه. لقد وقع في غرام إحدى زميلاته التي خطفت قلبه وسلبت عقله، وهو مستسلمٌ بكلّ سرورٍ لهذا الخطف وذاك السلب. وانشغل بهذا الغرام كثيرًا مما أثّر على مستوى تحضيراته للامتحانات. وعلى العكس من ثقته المعتادة بأنه سيجتاز الامتحانات ويحصل على علاماتٍ ممتازةٍ فيها عمومًا، فقد دخل امتحانات الفصل الأول ولديه قناعةٌ بأنّ نتائج امتحاناته لن تكون كما يأمل، لأنه لم يجدّ، ولم يزرع، ولم يسر على الدرب.
على العكس من توّقعه، بدا له أنّ أداءه في امتحان المادة الأولى، ثمّ الثانية، فالثالثة، جيدٌ، بل ممتازٌ، على الأرجح. لكنه بقي متوّجسًا ومعتقدًا أنّه سيتعرض، بالضرورة، أو على الأرجح، لنكسةٍ أو نكبةٍ في أحد امتحاني المادتين المتبقيتين. فدخل امتحان المادة الرابعة بهذه الهواجس والمخاوف أو التوقعات. لكنه عندما قرأ أسئلة الامتحان شعر بأنّ لديه القدرة على تقديم كلّ الإجابات المطلوبة. وعلى الرغم من أنّ ذلك قد أزال بعض هواجسه، وخفّف من حدّة مخاوفه، فقد استمر شعوره بالتوّتر، انطلاقًا من اعتقاده بالحكمة المذكورة، ومن توّهمه بأنّ المقدمات السلبية لا يمكن أن تفضي إلا إلى نتائج سلبيةٍ.
الفيلسوف هو من يحب الحكمة ويسعى إليها، لكن أشخاصًا كثر، ومن بينهم فلاسفة، خانوا الفلسفة بانتقالهم من محبة الحكمة إلى زعم امتلاكها
بعد مضي أقل من نصف ساعةٍ على بدء الامتحان، واجه صعوبةً في تذكر معلومةٍ أو جملةٍ مهمةٍ؛ فسارع إلى الاستنتاج أنّه ليس قادرًا على تذكرها، وأنّه سيواجه صعوبات مماثلةً، وربما أكبر، إذا حاول الاستمرار في محاولة الإجابة عن أسئلة ذلك الامتحان. فاتخذ قرارًا سريعًا بالانسحاب من امتحان تلك المادة. لكن، بعد انتهاء الامتحان وخروج زميلاته وزملائه، تذكَّر المعلومة التي كان يظن أنّه لن يتذكرها، وتبيّن له أنه كان قادرًا على النجاح في الامتحان والحصول على علامةٍ ممتازةٍ فيه، وأنّ ما منعه من تحقيق ذلك هو اعتقاده بالحكمة المذكورة وتطبيقها على حالته.
الحكمة ذات صلة وثيقة بالفلسفة، بل قد تكون هي الفلسفة ذاتها أحيانًا. والفلسفة بالتحليل الأولي للكلمة اليونانية الدالة عليها تعني، حرفيًّا، "محبة الحكمة". فالفيلسوف هو من يحب الحكمة ويسعى إليها، لكن أشخاصًا كثر، ومن بينهم فلاسفة، خانوا الفلسفة بانتقالهم من محبة الحكمة إلى زعم امتلاكها.
وفي الثقافة العربية، يتخذ التفلسف، أحيانًا، صيغة تقديم الحكمة في شذرةٍ أو جملةٍ قصيرةٍ أو بيت شعرٍ أو مثلٍ شعبيٍّ. وعلى الرغم من المعاني العميقة والخبرات المهمة التي يمكن أن تتضمنها تلك الحكم أو الشذرات، فإنّ أحاديتها وعموميتها أو شموليتها، تجعل من إمكانية إساءة فهمها، والتعسّف في تطبيقها، أمرًا شائعًا جدًّا. يضاف إلى ذلك أنه ليس ثمّة حكمة لا تناقضها حكمةٌ أخرى أو أكثر. فمقابل "لا تغرنكم المظاهر"، هناك "المكتوب مبيِّن من عنوانه"، ومقابل "معرفة الناس كنز"، هناك "البعد عن الناس غنيمة"، إلخ. لذا ينبغي الحذر من أن نكون حكماء بإطلاق مثل هذه الأحكام أو التعميمات، بدون تحفظ أو تحديدٍ، كما ينبغي الحذر في فهمها وتطبيقها في السياقات المختلفة. فليس كل من جدَّ وجد، وهناك من لا يجدُّ أو يجدُّ قليلًا ويجدُ كثيرًا. وهناك من زرع لكنه لم يحصد، وهناك من حصد بدون أن يزرع.
تقتضي الحكمة ألّا نكون حكماء، أي أن نبتعد عن تبني الحكم (الشعبية) الشائعة، وعن فهمها بطريقة أحاديةٍ واختزالية
انطلاقًا مما سبق، يبدو أنّ الحكمة تقتضي ألّا نكون حكماء، أي أن نبتعد عن تبني الحكم (الشعبية) الشائعة، وعن فهمها بطريقة أحاديةٍ واختزاليةٍ، وعن استسهال تطبيقها في السياقات المختلفة، بدون إدراك الممكنات المختلفة الموجودة في تلك السياقات. وبهذا المعنى يمكن القول: الحكمة زاد الفكر الكسول، أو الفكر الذي لا يفكِّر ولا يريد أن يفكِّر، لأنّه يسعى إلى الفكر المعلّب وبضائع الحكم الجاهزة. أمّا الفلسفة فهي تحليل المركب، وأشكلة البسيط، وإعادة النظر والتدقيق والتمحيص في البداهات والمسلّمات والأحكام والحكم الجاهزة.
ليس ضروريًّا الوقوع في الغرام أو الحب لتعلّم مثل هذا الدرس. لكن هذا الوقوع مفيدٌ ومغرٍ في كلّ الأحوال. وينبغي هنا التمييز بين الوقوع في الغرام أو الحب والوقوع في الخطأ. فشتان بين الوقوعين، مع أنّ كليهما يقدّمان دروسًا مفيدةً. وعلى العكس من الحكمة القائلة "لا يتعلم الإنسان إلا من كيسه"، يمكن القول إنه من الممكن ومن الأفضل، عمومًا، التعلّم من أكياس غيرنا، فثمن الاقتصار على التعلّم من كيسنا فقط باهظٌ جدًّا، كما لا يمكن لكيسنا أن يتسع لكلّ الدروس الضرورية التي نحتاج إلى تعلّمها. لكن في خصوص الحب، فمن الضروري أن نتعلّم من كيسنا أيضًا وخصوصًا. وحتى لو لم يكن في تجربة الحب ما نتعلّمه أو نتعلّم منه، فإنّ ما يسمّى وقوعًا في الحب هو ارتقاء مشاعر الإنسان إلى أرقى مراتبها. فيا حبذا هكذا وقوع، بعيدًا عن الألم والدموع.