غريب في وطني (4)

21 فبراير 2021
+ الخط -

باصات مصياف "الحقيرة" ستة كيلومترات فقط تفصل بلدتي كفرزيتا عن طريق دمشق حلب الدولي، هذه الستة كيلومترات فقط دفع أهالي كفرزيتا ثمنها غاليا جدا..

كم من عسكري مقطوع قادم بإجازة 24 ساعة جاء في آخر الليل ولم يجد سيارة عابرة تقله واضطر إلى أن يمضي إجازته "الساعية" مشيا على قدميه في الظلام وربما في الوحل والظلام والخوف أيضا. وكم من ذل مر بنا لكي نركب على متن شاحنة أو بيك آب أو ربما دراجة نارية. وكم من مشكلة حصلت وسوء نوايا خمنت إذا مر أحدهم ولم يقف ويحمل المسافرين لسبب ما.. وكم وكم..

حتى مدينة حماة المركزية تنقطع صلاتنا بها من بعد العصر عندما تتوقف الباصات العامة. والتي تكون في كثير من الفترات قليلة ونادرة حتى في الصباح. هذا بالنسبة للسفر إلى مدينة حماة فما بالك بالمسافر إلى دمشق أو حلب أو مدينة أخرى.

فجأة ينط أربع خمس وكلهم على خصرهم مسدسات وبنبرة عالية "قرد ولو لا ترفع صوتك 
هذا الكرسي لسيادة المساعد"..

أنت لا تتحدث عن قرية بعدة بيوت مبعثرة وإنما عن بلدة أشبه بمدينة صغيرة
أنت لا تتحدث عن القرون الوسطى وإنما على أبواب القرن الواحد والعشرين ونهايات القرن الماضي..

مع بدايات دخولي الجامعي، بدأت باصات مصياف حلب تمر من بلدتنا ومعها أصبح السفر إلى حلب أيسر بكثير من السفر إلى حماة، ومعها تم الانتهاء من عقدة التوقف في مورك سواء بالذهاب أو بالإياب بالنسبة للمسافرين إلى حلب.

وفرحنا كثيرا عندما وفرنا وقفة الذل و"الشنشطة"  في مورك، لكن لم نكن نعلم أن الذل سيرافقنا طيلة مسافة الطريق في الذهاب والإياب. وإذا كان الذل كحالة شعور عامة في مورك، فإن الذل الذي عانيناه في باصات مصياف كان بشكل مباشر وإلى حد يفوق الطاقة والكرامة الإنسانية، لقد تم افتتاح خط مصياف حلب مع زيادة عناصر المخابرات والأمن الذين يأتون من الجبل والساحل ويغزون خان شيخون والمعرة و سراقب وإدلب وحلب بشكل يومي وهم ذاهبون إلى وظائفهم في كافة الفروع الأمنية والاستخباراتية على كثرة تعدادها وتنوع تسمياتها..

في يوم من الأيام كنت قادما من حلب إلى كفرزيتا صعدت إلى الباص وكان الباص لا يزال فارغا، وضعت حقيبتي داخل الكرسي ونزلت لأشتري بعض الحاجات، رجعت بعد قصير من الزمن وإذ بحقيبتي مرمية بالممر وهناك من هو جالس مكاني..

قلت له: لو سمحت هذا الكرسي لي.

قال: "قرد ولو لاقيلك مكان ثاني".

قلت له: مانك شايف الباص مليان؟.

قلت له: بعدين هاي "جنتياتي" كانت على الكرسي.

وفجأة ينط أربع خمس وكلهم على خصرهم مسدسات وبنبرة عالية "قرد ولو لا ترفع صوتك 
هذا الكرسي لسيادة المساعد".. بلعت ريقي وحافظت على بقية كرامتي وسكتت وأمضيت رحلتي واقفا في الممر.

يوما بعد آخر، بدأنا نكتشف أن أمثال هذه الحوادث الحقيرة المذلة تحدث بشكل شبه يومي مع معظم أخوتنا وأهلنا وخاصة زملاءنا الطلاب.

اليوم، انقطع طريق مصياف حلب وتوقف "الغزو المخابراتي" من الساحل والجبل، لكن طريق حلب قم.. حلب طهران..  مفتوح على كامل مصراعيه..

ED62846A-8705-4394-95B1-4C8646BF5DC1
معاذ عبد الرحمن الدرويش

كاتب ومدون.. أكتب المقال والقصة القصيرة، وأنشر في مواقع عربية عدة.

مدونات أخرى