أنا والطابور والطاقة
لم تكن هناك مظلة فوق طاقة الفرن، المطر ينهمر بغزارة فوق الناس، لكن جسدي الصغير الضائع وسط الطابور حمى ثيابي قليلا من البلل، والأهم من ذلك لم يستطع البرد أن يتسلل إلى داخل الزحمة التي كنت محشورا في وسطها.
لم يكن هناك طابور بالمعنى الحقيقي، وإنما شبه طابور حيث يتكوم الناس حول الطاقة وتمتد هذه الكومة ويقل عرضها كلما ابتعدت عن الطاقة أكثر حتى تصبح بشكل أشبه بطابور مهلهل بعد عدة أمتار من حائط الفرن.
كنت أستغل أي حالة تدافع أو تزاحم بين الناس لكي أنسلّ إلى الأمام قليلاً باتجاه الطاقة. استطعت أن أحقق تقدماً كبيراً بعد ساعات من العراك بجسدي الصغير وسط الازدحام الخانق.
وأخيراً وصلت إلى الطاقة، قامتي الصغيرة لم تكن تسمح لكامل رأسي بالوصول إلى الطاقة، لكن مشهد داخل الفرن أصبح مرئياً تماماً أمام عيني.
الدفء القادم من داخل الفرن أدفأ أحلامي قليلاً بأن أعود بكومة من الخبز لأهلي هذا اليوم، ورائحة الخبز الشهي زادت شهيتي أن أصل بالخبز ساخناً إلى البيت لكي أتعشى مع إخوتي زيتاً وزعتراً مع الشاي هذا المساء، نسيت معاناة الازدحام وآلام التدافع ومرارة الانتظار.
كان بين الحين والحين يدق باب الفرن، في كل مرة لم يكونوا يفتحون أول الأمر، لكن الطرق المستمر والمتصاعد يجعلهم يفتحون في كل مرة، دخل فلان لأنه بالمخابرات، ودخل علان لأنه بالحزب، ودخل علنتان لأنه قريب صاحب الفرن، ودخل أبو فلان لأنه من وجاهات أهل الضيعة، في كل مرة يدخل أحدهم كنت أسمع تقييمه وسبب حظوته بالدخول من الرجال من حولي خارج الفرن.
عدت إلى البيت بيدين باردتين بدلاً من كومة من الخبز الحار. عدت إلى البيت مبلل الثياب، تمنيت لو أستطيع أن أبلل وجهي بسيل من الدموع
كل الذين دخلوا الفرن يقفون على جانبي سير الخبز وينتقون أرغفة الخبز المحمرة والمقمرة وما يتبقى من خبز يباع لمن يقفون معي على الطاقة.
لم أسمع أحداً من الرجال الواقفين على الطاقة اعترض على انتقاء الخبز الجيد ممن كانوا داخل الفرن، لكن كلما دخل أحدهم إلى داخل الفرن كنت أسمع همساً خفيفاً من أحدهم وهو يقول "ليش عم تفتحوا الباب؟".
أدركت بحدسي الطفولي أن لا أحد يتجرأ على انتقادهم مخافة أن يحرموه من الخبز، ولا أحد يبالي بنوعية الخبز التي يأخذها، المهم أن يحصل على ربطة خبز يسد بها جوع أهله وعياله مهما كانت نوعيتها رديئة.
كنت أمد يدي وأضع النقود بوجه البائع.. ثلاث ربطات يا حجي، لم يكن الحجي البائع يكترث بي ولا بيدي أمام وجهه وكأنني غير موجود. وكان البائع الحجي ينظر يمنة ويسرة وينتقي الرجل الذي يريد إعطاءه الخبز في كل مرة.
وفجأة صاح الحجي "خلصنا بيع اليوم".
- بس في خبز يا حجي
- الخبز منباع..
- بس ربطة يا حجي الله يخليك والله صار لي من الظهر.
أغلق الحجي باب الطاقة الصغير في وجهي دون أن يكترث بي أو بمن تبقى حول الطاقة. نظرت حولي، لم أجد سوى بعض الأطفال وبعض النساء وبعض الرجال الفقراء والمساكين.
عدت إلى البيت بعدما ضاع نصف النهار وأنا لم أكتب وظائفي المدرسية ولم أحضر لمذاكرة الغد، وقد أرسلتني أمي فور عودتي من المدرسة لأنها قالت لي إن الفرن يعمل بعد الظهر ولا يوجد عندنا خبز.
عدت إلى البيت بيدين باردتين بدلاً من كومة من الخبز الحار. عدت إلى البيت مبلل الثياب، تمنيت لو أستطيع أن أبلل وجهي بسيل من الدموع.
تمنيت لو أستطيع أن أملأ العالم بصرخة أحقن فيها كل عذاباتي ومرارتي وقهري.
لكنني لم أستطع..