غريب في وطني (3)
من المواقف الصعبة التي نتعرض لها في حياتنا الجامعية، عندما كنا نركب "السرفيس" ويركب بجانبنا دكتورنا الجامعي، الذي كان يحاضر بنا قبل قليل، كنا نحتار هل ندفع عنه الإيجار إكراماً من طلاب لأستاذهم أم نتجاهل وجوده تماماً حتى لا نتسبب له بالإحراج؟ لكن كنا مقتنعين أن تجاهله أفضل لكرامته و مقامه.
كنا توأماً بكل ما تعني الكلمة أنا وصديقي زياد، دخلنا الجامعة سوية، نجحنا سوية، رسبنا سوية، احتفلنا بالتخرج سوية، وكانت ساعة التخرج هي اللحظة الأخيرة التي نكون فيها على نفس السوية، ومن بعدها بدأت الحياة تفرق بيننا، فبينما الحظ ابتسم لصديقي زياد وتوظف مباشرة في بلدية حلب، لم يكن لي اسم ممن ابتسم الحظ لهم ووجدوا أي طاولة وكرسي فارغ في أي مؤسسة من مؤسسات "الدولة"، لكي أنصب نفسي عليها مهندساً مدنياً.
الحقيقة أن صديقي زياد لم يكن محظوظاً بالصدفة وإنما لديه ابن عم وله معارف بمجلس الوزراء.
عندما دخلت الجامعة بفرع الهندسة المدنية ظننت نفسي أني قادر على إعادة بناء العالم من شدة تفاؤلي، لكن عندما تخرجت فوجئت أن كل الأبواب موصدة في وجهي. وأني غير قادر حتى على أن أعيل نفسي.
الحقيقة أن المشكلة ليست في القانون أو الاختصاص، وإنما كون نقابة المهندسين كانت عبارة عن مافيات وعصابات ولا يريدون لأحد أن يكبر و يقاسمهم غنائم تحايلهم
بعد تعذر الوظيفة كان لا بد من طرق باب نقابة المهندسين، ذهبت إلى النقابة:
- قلت: أريد أن أفتح أو أعمل في مكتب هندسي.
- قال: لا يحق لك لأن اختصاصك مائية.. يمكنك أن تفتح مكتب هندسة مائية.
- قلت بسخرية: شي حلو ننشئ موانئ خاصة وسدودا خاصة ونبيعها للناس؟.. أنا مهندس مدني أولاً وآخراً.
- قال: يجب عليك أن تعدل شهادتك و تحتاج إلى تقديم امتحان بتسع مواد.
- قلت: يعني كأنك تقول لي هاي "شهادتك بلها و إشرب ميتها".
- قال: هذا هو القانون.
- قلت: ما دمتم إلى هذا الحد حريصين على التخصص، ما علاقة زميلي المهندس المدني بمؤسسة الأبقار؟ .. وما علاقة زميلي المهندس المدني بمصنع الحديد .. وما علاقة زميلي الآخر بوزارة الثقافة.. لكي تعينوهم فيها؟
- قال: ماني فاضي لك، روح ناقش رئيس مجلس الوزراء.
اسودت الدنيا في وجهي، كل الأبواب في "وطني" موصدة، تواصلت مع بعض الإخوة والأصدقاء في الخليج، فأمنوا لي فيزا زيارة، فجمعت أحزاني و حقائبي و غادرت الوطن.
ربما لا أحد يصدق.. خلال أسبوع قابلت عدة شركات للعمل وفي اليوم العاشر بالضبط من دخولي كنت قد باشرت العمل بالشركة، وبراتب يعادل عشرة أضعاف راتب صديقي زياد "المحظوظ في الوطن".
و بعد شهر فقط تم اعتمادي كمهندس مدني في المشاريع، قلت يا إلهي!.. "وطني"لم يوظفني، وهنا في الغربة لم أنتظر سوى عدة أيام لأجد نفسي مهندساً محترماً في شركة محترمة رغم إنعدام خبرتي العملية!. "وطني" لم يعترف بالشهادة التي منحتني إياها جامعاته، والغربة اعترفت بها كشهادة عالمية.
ما زلت أذكر كلمات صاحب الشركة عندما قابلته، قال لي أنا معجب بالمهندس السوري يأتينا بدون أية خبرة، لكن انتظر عليه عدة شهور ستجده مهندساً كبيراً "يقول ويشور" في كل أمور العمل الهندسي. بينما زميلي المهندس في النقابة يقول لي هذا هو القانون.
الحقيقة أن المشكلة ليست في القانون أو الإختصاص، وإنما كون نقابة المهندسين كانت عبارة عن مافيات وعصابات ولا يريدون لأحد أن يكبر و يقاسمهم غنائم تحايلهم.
بعد أشهر اتصل بي صديقي زياد وقال لي أرجوك أن تؤمن لي فيزا، أريد أن أهرب، هذا الوطن لا يصلح للعيش إلا للحرامية و"الدووايث". قال لي: (والله الراتب لا يكفي للحاجات الأساسية، و ليكن في معلومك لو بدي افتح إيدي للحرام بتعرف أنه بطلع عشر أضعاف راتبك في الخليج).
أمنت "فيزا" لصديقي زياد و سافر على الفور، وعادت الغربة وجمعتنا من جديد بعد أن فرقنا "الوطن". بعد فترة وجيزة جاء زياد وهو يركب سيارة من أحدث الموديلات، قال لي: هل تذكر أيام السرافيس و نحن خجلون ومحرجون بالنيابة عن أساتذتنا ودكاترتنا في جانبنا؟