عن الوداع وأشياء أخرى
لقد تعبت الروحُ من كثرةِ الوداع، ومن كثرةِ الغياب، ومن عنادِ الأشياء وكثرةِ الذكريات. لديّ "وداعات" كثيرة، من بابِ المدرسة والجامعة وباب منزلنا، إلى المطار. من فتى عرفته في الثانوية، ومن أصدقاءٍ في مختلفِ المراحل، وآخرين جمعنا بهم العمل الصحافي، وآخرين أيضاً في الترحال والسفر، ومن امرأةٍ تُدعى خطيبتي.
لديّ "وداعات" من الجيران عندما انتقلنا إلى منزلٍ آخر، ومن جيراننا الذين ضاقت بهم المدينة واختاروا الغربة.
لديّ "وداعات" كثيرة كلّها تشبه بعضها، إلّا الوداع الذي كان بعد الحرب في السودان، كان وداعاً مُرّاً للبيوتِ، للجيران، للأصدقاء، للذكريات، والأغاني، والوطن.
في كلّ مرّة أشعر بالحنين والشوق إلى كلّ لحظاتِ الوداع تلك، أجد نفسي أسافر في عوالمِ الذكريات والأماكن التي شاركتها مع من أحببت. تتساءل الروح في كلّ لحظةٍ، متى ستجتمع القلوب مرّة أخرى؟ ومتى سيعود الأحباب ليروا بعضهم؟
في مسيرةِ الحياة المتعرّجة، تخترقُ الأماكن أعماقَ وجودنا، وتتركُ بصماتها على هُويّتنا. إنّها ليست مجرّد حيّز جغرافي، بل حاضنات لذكرياتنا وعواطفنا، مرتبطةً بشكلٍ لا ينفصم بالأشخاص الذين شاركونا رحلاتنا فيها. وعندما تغيب هذه الأرواح عن حياتنا، تفقدُ الأماكن بريقها وتتحوّل إلى مجرّد ظلالٍ لماضيها.
تتساءل الروح في كلّ لحظةٍ، متى ستجتمع القلوب مرّة أخرى؟ ومتى سيعود الأحباب ليروا بعضهم؟
أشتاق إلى "شرق النيل 13"، حيث كانت أرواحنا الشابة تتراقص على أنغامِ الضحك والثرثرة لساعاتٍ طويلة. أشتاق إلى "شارع الجرايد"، حيث كانت مغامراتنا وخططنا تنبضُ بالحياة، وتترك ذكرياتٍ لا تُنسى محفورةً في قلوبنا. أشتاق إلى "موقع خبرك"، الذي كان شاهداً على مزيجٍ معقدٍ من القلقِ والأمل، حيث اختلطت دموع الفرح بالألم. أشتاق إلى "مكتب Bein Sports"، حيث كنّا نعمل معاً، متحدّين في مواجهةِ التحدّيات، تاركين بصمات عرقنا وجهودنا على جدارِ نجاحاتِ الرياضة السودانية.
أشتاق إلى الونسِ والضحكِ، إلى الدموعِ والخوفِ والقلقِ الذي كان يجمعنا ويجعلنا أقرب إلى بعضنا البعض، حيث يبدأ القلب في الغناء بألحانِ الحنين والشوق، وتتلاطمُ المشاعر كالأمواج في بحرِ الذكريات. تظهرُ الأحاسيس العميقة بكلِّ قوٍّة، تُذكرنا باللحظات السعيدة التي عشناها وتجعلنا نتمنى لو يمكن للزمن أن يعود إلى الوراء. لقد كانت تلك التجارب، بكلِّ ما فيها من ألمٍ وفرحٍ، جزءاً لا يتجزّأ من رحلتنا وقصة حياتنا معاً.
لا تزال المباني قائمة، لكنها أصبحت تفتقر إلى الروح والحياة التي كانت تُضفيها علينا. إنّها مثل جثثٍ خاوية، تُذكرني بالأشخاص الذين فقدتهم، وبالذكريات التي لم يعدْ بإمكاني استعادتها.
أعرف أنّ الحياة تمضي قدماً، وأنّ علينا المضي معها. ولكن من الصعب أحياناً المضي قدماً دون النظر إلى الوراء، شوقاً إلى ما كان عليه الحال من قبل. لذا، أسمح لنفسي بالغرقِ في هذه الذكريات من وقتٍ إلى آخر، لاستحضارِ الأشخاص الذين أحببتهم والأماكن التي تشاركناها معاً.
إنّها معضلة الحياة، حيث ترتبطُ سعادتنا وآلامنا بالأماكن والأشخاص الذين شاركناهم الأماكن واللحظات الجميلة. وعندما نفقد هؤلاء الأحبّاء، فإنّنا نفقدُ جزءاً من أنفسنا أيضاً. لكن حتى في غيابهم، تبقى ذكرياتنا حيّة، تربطنا بهم، وبالأماكن التي تقاسمناها معاً إلى الأبد، والسلام.