الورق يحتضر!
إنّ الحديث الذي يدور حول توّقف الصحافة الورقية بين حين وحين، ليس بجديد، بل هو مصير محتوم في ظلِّ التقنية الجديدة. فكلُّ ما كان يُطبع على الورق انتهى، بما في ذلك المعاملات والوثائق الشخصية والمهمة، لأن هذا نوع من التطوّر عملياً وفي نهاية المطاف. وإذا كان الحال كهذا إذن، فأين تكمن المشكلة الحقيقية؟
المشكلة ليست في توقّف الصحافة الورقية، لكن يكمن الخطر في تعرُّض المهنة بأكملها للتهديد. لماذا وكيف هذا؟
أثبتت التجارب أنّ الصحافة الورقية هي المدرسة الحقيقية لتعلّم مبادئ الصحافة وأُسسها وقيمها، وبعدها قد ينطلق الصحافي إلى الصحافة التلفزيونية مُتسلحاً بما تعلّمه منها. أمّا من اختصر المسافات، ولم يمُر على الصحافة الورقية فقد فاته من الخير الكثير.
إنّ الصحافة الورقية هي إنتاجُ عملٍ ميداني وتقصٍّ، وصناعة صحافية تتجلّى بتلك الأوراق التي نراها والأرفف على المكتبات. كما أنّها جهدٌ وتحقيق وتقصٍّ ومِصداقية، تُنشر بعد تمحيصٍ ومتابعة، وطاولة اجتماعات، ليكون المانشيت "جاذباً ومنافساً".
أوجدت الصحافة الورقية "قارئاً"، في حين أوجدت الصحافة الإلكترونية والميديا "متصفحاً"، والبون شاسع بينهما
أمّا مسألة توقّف الصحافة الورقية هذه، فتأتي ضمن النزاع الذي تعيشه الصحافة الورقية في كلّ أنحاء العالم مع سيطرة المواقع الإلكترونية. ويوماً ما، عندما نُخبر أولادنا بأنّنا كنّا نقرأ الجريدة من خلال الورق، سينظرون إلينا كما ننظر نحن إلى من كان يستمع إلى الموسيقى عبر الغراموفون.
صحيح أنّ الاعتبارات المادية هي من جعلت النشر الورقي يحتضر اليوم، ولكن يظلّ الاختلاف الجوهري بين الصحافة الورقية والإلكترونية، بأنّ الورقية أوجدت "قارئاً" بينما الصحافة الإلكترونية والميديا بشكل عام أوجدت "متصفحاً"، والبون شاسع بينهما.
ومن مساوئ الصحافة الإلكترونية أنّها تقبل، بل تستقطب أحياناً في مناصبها القيادية، أوهن الأشخاص مهارةً، فتجد رئيس تحرير ينضح إخفاقًا، وتئنُّ اللغة من عظيم جهله، ويمزّق أساسيات الكتابة الصحافية بين سطوره.
صحيح أنّ الصحافة الإلكترونية سهلت النشر وواكبت سرعة العصر، إلّا أنّ ذلك أقحمها في أخطاء فادحة، صياغةً وأسلوباً، حتى على مستوى المهنية، فضلاً عمّا نراه من انحدارٍ في الخبرة، وأحياناً المصداقية.
بشكلٍ عام، إنّ الصحافة لن تموت، لأنّها عادت مجدّداً بشكلٍ آخر في عصرِ الأجهزة الإلكترونية المتطوّرة. وستبقى الصحافة دوماً وتتطوّر. وهذا لا يعني اختفاء الورق، بل يعني وضع حد لمصاريف إنتاج الصحف الورقية الهائلة، والتي لم يعدْ لها أيّ مبرّر. فاختراع الكهرباء لم يقتل الشمعة، واختراع السيارات والطائرات لم يقتل العربات التي تجرّها الخيول؛ ولكن لكلِّ زمن وسائله وأدواته، وهذا هو حال الدنيا، الجديد يجُب ما قبله، نحو مستقبلٍ لا يعلم نهايته إلا الله.
الكتابة عطاء والقلم سلاح، والمحتوى الجيّد يفرض نفسه في كلّ الفضاءات الواقعية والافتراضية
لذا مطلوب من الصحافي تطوير ذاته، ومواكبة التطوّرات الجديدة والمتسارعة في عالمِ الصحافة حتى لا يغيب عن المشهد الاعلامي.
والكاتب المؤثّر هو الذي يحتفظ بمتابعيه، سواء ورقياً أو إلكترونياً، رغم أنّ للصحف الورقية عُشاقها المُخلّصين وكُتّابها الذين استمرّوا في الكتابة رغم توقّف مكافآتهم، ولا يزالون حتى كتابة هذه السطور. فليست المادة كلُّ شيء، والكتابة عطاء والقلم سلاح، والمحتوى الجيّد يفرض نفسه في كلّ الفضاءات الواقعية والافتراضية.
لذلك، شكراً لكلّ كُتّاب الصحافة الورقية على وجهِ هذه البسيطة، الذين يكتبون مجاناً حتى لو كان الهدف البقاء على قيد الحياة اجتماعياً، فبعضهم قد يموت لو توقّف عن الظهور. والسلام.