القاهرة... سلاماً لا وداعاً
يقودني الزُقاق من شارع 26 يوليو في العاصمة المصرية القاهرة إلى "التوفيقية" في وسط البلد، حيث الجو صحو والسماء صافية والنجوم تتلألأ وكأنّها ترسل إشاراتٍ ما ترحيبًا بضيفها الأسمر القادم من خرطوم أرض النيلين إلى قاهرة المُعز.
تتجوّل بكَ الذاكرة حين تصل إلى القاهرة الفاطمية، وأنت تمرّ على مسجد الحُسين قبل أن تُكمل طريقك إلى شارع المُعز لدين الله، لتُشاهد أطيافاً مختلفة من المحلّات التجارية القديمة. ذهبٌ وأثوابٌ وأوانٍ قديمة ومطاعم ومقاهٍ ما زالت مُحافظة على دِيكورها القديم، ويوجد على أبوابها وبداخلها أشخاص يدخنون "الشيشة".
مقاهٍ شعبية بنفس الكراسي والألوان التي تشكلت في مخيلتي بسبب مشاهدتي الأفلام والمسلسلات المصرية: قهوة سادة، كوباية يانسون، كوباية شاي.. شباب يحملون كاميرات ويعرضون صورهم الاحترافية على المارة بالزي الصعيدي أو التركي، آخرون يبيعون تذكارات مصنوعة من خشب وأخرى من طينٍ أو زجاج.
لكن أكثر ما شدَّ انتباهي كان تلك المحلات الصغيرة جدًّا، والتي تبيع الأنتيكا: صورٌ قديمة لممثلات مصريات من خمسينيات القرن الماضي، صناديق خشبية صغيرة مزخرفة، فينيل قديم، أسطوانات للموسيقار عبد الوهاب وأم كلثوم والعندليب عبد الحليم حافظ، مفاتيح نحاسية كبيرة كانت، ربّما، لأبوابٍ ضخمةٍ في القاهرة القديمة، مرآة نحاسية قديمة لعلّها كانت مُلك حسناء مصرية منذ زمنٍ مضى، ملاعق فضية وأباريق، ربّما يتجاوز عمرها القرن.
مضت آلاف السنين وسيمضي غيرها، والقاهرة لا تزال قاهرةً
مجالسُ شيوخ تزرع البهجة في النفوس. مساجد جمالها يسكن الروح. نداءٌ للصلاة يأسر الفؤاد. كلُ هذه الأشياء تُرجعني إلى زمن لم أعشه، تجعلني أتخيّل الحياة في نفسِ المكان منذ زمنٍ، حيث كان الناس يعيشون قصصاً بطريقة أخرى، ويفكرون بطريقة أخرى، غير التي نعيش بها اليوم.
غير بعيد، شاهدت سيدة في الأربعين تبيع أشياء بسيطة على الأرض، كانت تصرخ في وجهِ رجلِ أمن قرب مسجد الإمام الحسين، ظهر جليًا أنّه كان يريد منها أن تُخلي المكان لأنّه ملك عام، لكن ردّها كان ردّ لبؤةٍ في عرينها "أروح فين يا باشا؟ أصرف على ولادي منين حضرتك؟". انتهى الحوار ببساطة وأكمل الباشا طريقه مطأطئ الرأس إلى مكانٍ آخر لتظلّ السيدة شامخةً في ركنها تدعو المارة بابتسامة لا تموت إلى سلعتها.
كانت تلك الرقعة من مصر الفاطمية أجمل ما شاهدت خلال رحلتي إلى القاهرة لمِا أحسستُ بِه فيها من حنينٍ إلى ماضٍ لم أعشه، وإلى أشخاصٍ لم أقابلهم يومًا، لكنهم عاشوا هنا، ومرّوا من هنا، بنوا هذا المكان وأحسنوا بناءه، لكنه ولّى حزينا بدوره كالنيل، وكوجوهِ أولئك "المصريين الغلابة" الذين ينفثون خيباتهم المتراكمة في سيجارةٍ رديئة الجودة.
أمّا القاهرة ليلاً، فهي أجمل بكثير منها نهاراً، أو ربّما الليل يزيدها رونقاً وسحراً، حيث ينام الكل بين يديّ النيل، وكأنّ هذا الأخير حضن أمٍّ تحنو على صغارها عند كلّ مغيب، تربت على كتف الباكي وتخفّف آلام الشاكي وتعِد الحالم بغدٍ أفضل؛ أفضل مما مضى، بينما تظلُّ الأنوار ساطعةً تزيد مياه النيل عمقاً ولألأةً لا ينضب لها معين، رغم آلاف السنين التي مضت وستمضي، بينما القاهرة لا تزال قاهرةً، أو كما قال الفنان السوداني العظيم الراحل عبد الكريم الكابلي:
مصر يا أخت بلادي يا شقيقة... يا رياضا عذبة النبت وريقة.
فيا قاهرة.. سلاماً لا وداعاً. والسلام.