عندما تصبح الدموع خبراً
منذ أكثر من عام، ونحن نواصل التزامنا بتقديمِ تغطيةٍ حيّةٍ ومستمرّةٍ للأحداث المُتسارعة في فلسطين ولبنان، واضعين نصب أعيننا تسليط الضوء على العدوان المستمر على قطاع غزّة والمواجهات العنيفة في جنوب لبنان. سخرنا كلّ إمكانياتنا لننقل إلى المشاهدين صورة الواقع بكلِّ تفاصيله المؤلمة والمليئة بالتحديات، وتبنينا هدف سرد القصص الإنسانية التي تتكشّف يوميًّا وسط الدمار والمعاناة، لنوصلَ صدى وجعهم إلى العالم.
مع بداية العدوان على قطاع غزّة، كنت أحمل في داخلي حياة جديدة، كنت أنتظر مولودي، "يحيى". وبينما كانت تنتقل أمام عينيّ صور الأمهات الفلسطينيات اللواتي فقدن أحباءهن، شعرت أنّ هناك رابطًا خفيًّا يجمعني بهنّ. مع كلّ أمٍّ فقدت طفلها، كنت أرى جزءًا من نفسي ومن مشاعري بصفتي أمًّا تتهيّأ لاحتضانِ مولودٍ جديد. كانت مشاعر الألم تتدفق إلى داخلي كلما ظهرت أمامنا صور الأطفال الجرحى في المستشفيات، أولئك الذين حرمهم القصف العشوائي من فرصة الشفاء أو النجاة، حيث لم تكن حتى المرافق الطبية بمنأى عن الاستهداف.
وسط هذه المشاهد التي كانت تمزّق قلبي، كانت الدموع تملأ عينيّ، لكنني، بصفتي إعلامية، كنت أدرك أنّ عليّ أن أحافظ على تماسك مظهري، لأكون قوية في وجه هذه المأساة، وأحمل رسالة الصمود لأولئك الذين يقاومون بشجاعةٍ غير عادية. تملكتني مشاعر عميقة بالمسؤولية، بأن أكون صوتًا لمن لا صوت له، أن أروي قصصهم بصدقٍ وشفافية، وأن أنقل معاناتهم إلى كلِّ زاويةٍ في العالم، لعلّ الإنسانية تستفيق وتجعل معاناتهم في بؤرة الاهتمام. ومع مرور الوقت، استمرّت الحرب على قطاع غزّة بكلِّ عنفها وقسوتها، ولم يكد العام يُختتم حتى انطلق عدوان آخر على لبنان. كنت أقدّم نشرة الأخبار مباشرة في صباح أحد الأيام حين بدأت سلسلة الغارات الجوية على لبنان. قلت في نفسي ربّما تكون جولة قصيرة من الهجمات كما اعتدنا أن يفعل الاحتلال الإسرائيلي في لبنان، ولكنني لم أتوقع أن يتكرّر المشهد الدموي القاسي هنا. بدأت صور الضحايا تتوارد من لبنان: أطفال مقطّعة أجسادهم، عائلات مفجوعة، وكنت أستحضر مشهد طفلي في كلِّ خبر أنقله، فأكتم دموعي مرّة أخرى وأجبر نفسي على التماسك أمام الكاميرا.
كيف لنا، نحن الإعلاميين والصحافيين، ونحن نشهد هذه الكوارث وننقلها، أن نبقى صامتين من الداخل؟
وفي تلك اللحظات العصيبة، تصادف أنني كنت على الهواء أيضًا عندما وصلت إنذارات الإخلاء إلى مدينتي صور وبعلبك. كانت الصور التي تأتي من هناك تُعيدنا ذهنيًّا إلى بداية الحرب على قطاع غزّة؛ تكرّرت مشاهد التهجير، والأهالي الذين يسيرون على الطرقات في البرد القارس، يحملون ما تيسّر لهم من أغراض، يصحبون أطفالهم ويبحثون عن الأمان. كان الألم العميق يملأ المشهد، وكنت أكافح لكبت دموعي لأنني أمام الكاميرا وأحتاج إلى الظهور متماسكة.
ومع كلِّ مشهد مأساوي، كانت عيناي تغرقان بالدموع، لكنني مضطرة إلى كبحها حتى أتمكن من أداء مهمتي الصحافية بنزاهة وحرفية. رغم ذلك، لم تتوقف الأفكار عن الدوران في ذهني: كيف لنا، نحن الإعلاميين والصحافيين، ونحن نشهد هذه الكوارث وننقلها، أن نبقى صامتين من الداخل؟ ألسنا نحن أيضًا جزءًا من هذه المعاناة التي نرويها؟ ألا يمكن أن تكون دموعنا، إن انهمرت بصدقٍ ومن دون قصد، رسالة بحد ذاتها؟ أن تعبّر عن حجم الظلم والمأساة التي يعيشها أهلنا في قطاع غزّة ولبنان؟
قد يبدو من الضروري لنا أن نحافظ على حيادنا أمام المشاهد، ولكن وسط هذا الكم الهائل من الظلم والألم الذي ننقله يوميًّا، بتّ أرى أنّ مشاعرنا، حتى الدموع التي نحاول إخفاءها، هي جزء من رواية الحقيقة. أليست هي أيضًا تعبيرًا عن إنسانيتنا، وعن عمق الألم الذي نتعايشه مع الآخرين؟