عصا قيس سعيّد: التآمر على أمن الدولة
ما يميّز الحدث التونسي أنه كان ثورة لم يطلقها السياسيون، بل كان حدثاً شبابياً تشكّلت ثقافته في ظل صعود الشبكات الاجتماعية والفيسبوك تحديداً آنذاك، وكان أول نصر يتحقق للثورات العربية التي انطلقت في عام 2011 وأطاحت بـ"بن علي"، وأجبرته على الفرار من البلاد. وبعدها شهدت تونس انتقالاً ديمقراطياً مشوباً بالتقلبات والمطبات.
تونس التي بدت وكأنها في طريقها إلى ديمقراطية حقيقية خابت آمالها، بعد أحداث صيف 2021 والذي وُصف بالانقلاب الناعم، خرج الرئيس التونسي قيس سعيد على شاشات التلفاز، محاطاً بمجموعة من القيادات الأمنية والعسكرية في قصر قرطاج، ليعلن "انقلاباً ناعماً". تضمّن "انقلاب سعيّد" تجميد عمل البرلمان، ورفع الحصانة عن نوابه، وإقالة رئيس الوزراء هشام المشيشي، على أن يتوّلى الرئيس نفسه السلطة التنفيذية، بالتعاون مع رئيس حكومة يُعيّنه هو، وليس البرلمان كما ينص الدستور؛ فضلاً عن إعلان ترؤسه النيابة العمومية، بدعوى "متابعة ملفات تمس أمن البلاد". ومن هذه العبارة أعاد قيس سعيد شبح الدولة البوليسية إلى تونس، ودائماً بذريعة الأمن -أمن البلاد وأمن الدولة- وما شابه من مصطلحات.
تضمّن "انقلاب سعيّد" تجميد عمل البرلمان، ورفع الحصانة عن نوابه، وإقالة رئيس الوزراء هشام المشيشي، على أن يتولى الرئيس نفسه السلطة التنفيذية، بالتعاون مع رئيس حكومة يُعيّنه هو
كما شهدت تونس تعديلاً دستورياً في يوليو/تموز 2022 منح الرئيس صلاحيات تشريعية واسعة على حساب الضوابط والتوازنات التي كانت قائمة حتى ذلك الحين، مما قوّض الفصل بين السلطات، وشكّل تهديداً لمنجزات الثورة التونسية، تحديداً فيما يتعلّق بحرية الصحافة. وفي سياق المناخ السياسي يُمثل المرسوم 54 الصادر في سبتمبر/أيلول 2022 تهديداً لحرية الصحافة، وهو الذي يفترض أن يحارب "المعلومات الكاذبة".
إذاً انتهج الرئيس قيس سعيد سياسة كم الأفواه ووظّف المراسيم والقوانين لخدمتها، جرت ملاحقة الإعلاميين وناشطي حقوق الإنسان والمحامين الحقوقيين والمعارضين السياسيين حتّى وصل الأمر إلى ملاحقة واعتقال المدونين على وسائل التواصل الاجتماعي.
خلال شهر مايو/ أيار 2023 قالت منظمة العفو الدولية إنَّ قرار السلطات التونسية توسيع نطاق التحقيق الجنائي في التحقيق بقضية "التآمر" المزعومة، بإضافة أربعة محامين معارضين إلى قائمة المتهمين هو علامة مقلقة للغاية بأنها تخطط لتشديد القمع. ومن بين المتهمين الجدد محامي حقوق الإنسان البارز العياشي الهمامي، والمحامية النسوية بشرى بلحاج حميدة، والمحاميان المعارضان نجيب الشابي ونور الدين البحيري.
وقالت هبة مرايف، مديرة المكتب الإقليمي للشرق الأوسط وشمال أفريقيا في منظمة العفو الدولية: "لقد ألحقت السلطات التونسية بالفعل ما يكفي من الضرر بالحق في حرية التعبير وسيادة القانون، من خلال احتجاز المعارضين تعسفاً بتهم لا أساس لها من الصحة. وينبغي عليها إغلاق هذا التحقيق على وجه السرعة، والإفراج فوراً عن جميع الذين اعتقلوا على خلفيته، ووضع حد لاستخدامها القضاء أداة للقمع.
ومع تفاقم الأزمة الاقتصادية في تونس بشكل مطرد، ينبغي على السلطات أن تسعى إلى تعزيز أجواء النقاش الفعال حول مستقبل البلاد. وبدلاً من ذلك، تستهدف السلطات عمداً المحامين البارزين، وأعضاء المعارضة السياسية الذين ناضلوا لسنوات من أجل مستقبل أفضل لتونس لنشر الخوف وإسكات المعارضة، مما يبعث رسالة مرعبة مفادها أن أي شخص يجرؤ على معارضة الرئيس سعيّد يخاطر بأن يكون موضع انتقام".
وتحتل تهمة التآمر على أمن الدولة صدارة القضايا والملاحقات التي طاولت رموز المعارضة والنشطاء السياسيين في تونس ليبلغ عدد المعتقلين والمطلوبين العشرات، بعد أن تحولت إلى سلاح خطير يتربص بالمعارضين. وتُمثّل تهمة التآمر على أمن الدولة رغم اختلاف القضايا والحيثيات، عمود الأساس لحملة التوقيفات التي تستهدف شخصيات عديدة من السياسة والصحافة والمحاماة وغيرهم، في الوقت الذي يؤكّد محامو الدفاع غياب القرائن والأدلة، وعدم احترام أبسط الإجراءات القانونية وضمانات المحاكمة العادلة.
أمام هذا الواقع، هل فرض على التونسيون نعي الحرية التي حاربوا لأجلها بشق الأنفس، والتي اعتبروها إنجازهم الأهم، أم سيستمر النضال السلمي وتعود رائحة الياسمين مجدداً لهذه البلاد الخضراء؟!