عش الحمامة

28 ابريل 2023
+ الخط -

كان غريباً أن أجد تلك الأغصان الصغيرة متكوّمة في زاوية الشرفة، حين كنت أروي نباتاتي. كان معظمها من الأوراق الأبرية التي لشجر الصنوبر. ما الذي أتى بها إلى أرض شرفتي؟ فالنباتات التي زرعتها هنا لا تمت لشجرة الصنوبر بصلة، هي مجرّد شجيرات متسلقة، تتفتّح ورودها الصفراء والوردية من وقت لآخر، ولا تشبه وريقاتها إبر شجرة الصنوبر بكلّ الأحوال. 

نظرت إلى الحائط الذي تكدّست أسفله تلك الوريقات والأغصان، ثم رفعت نظري متفحصة الى أعلى، فلم أجد سوى محرّك المكيّف المثبّت على حائط الشرفة. ذهبت إلى الداخل لأملأ إبريق المياه مرّة أخرى وأنا أفكر، ولمّا عدت الى الشرفة، فوجئت بحمامة تطير مفزوعة من مكان ما فوق المكيّف.

هل يكون ما أفكر به؟ لا يمكن أن يكون شيئاً آخر غير ذلك. إنه الربيع، هناك أمٌ ما تحوك عشاً آمناً لبيضها هنا، عندي، في مكان بين الحائط ومحرّك المكيّف. جهدت في التفتيش بصرياً، لكني لم أر أيّ شيء فالمكان ضيّق جداً. حسناً، فلأجلب السلم ومعه عصا المكنسة الطويل للتفتيش بدقة. 

كنت قلقة بداية على سلامة المكيّف. فهذه الأيام، التي نعاني فيها من أجل تأمين قوت يومنا على الأقل، لا نملك فيها رفاهية شراء مكيّف جديد، ولا حتى تصليحه. لا بل إنّ تعطّل أي آلة كهربائية من ضروريات المنزل يعتبر كارثة اقتصادية للأهالي بسبب ارتفاع أسعار جديدها بالدولار "الفريش" (كما يسميه اللبنانيون لتمييزه عن دولار ودائعهم المحتجزة في المصارف) نسبة إلى ما نقبضه بالليرة اللبنانية المتحوّلة إلى لا شيء بسبب المضاربة عليها. 

حتى إنّ البعض بدأ يتندّر بتأليف "دعاء الثلاجة" ودعاء "المكيّف" لحمايتهما من الأعطال، تيمناً بـ"دعاء السيارة" و"دعاء المصعد"، في إشارة إلى عجزهم عن تحمّل كلفة أيّ عطل يصيب تلك الآلات المستوردة.

لكن، ما إن فكرت قليلاً، حتى تغيّر نوع قلقي الاقتصادي. فالحمامة التي تبني عشها حالياً، وبكلّ ثقة، في المحرّك الساكن حالياً كون "الدنيا ربيع والجو بديع" كما تقول السيدة سعاد حسني، قد تتعرّض وزغاليلها إن فقسوا هنا، وفي حال شغلت المكيّف إلى "فرم" محتّم.

لو لم تلحظ الحمامة أنّ هذا المكيّف ساكن منذ أكثر من سنتين، لما تجرّأت وتهوّرت وبنت ذلك العش هناك 

 اقشعر جسدي لتخيّل المشهد بعد حادث كهذا. أخذت عصا المكنسة وأدخلتها بين المكيّف والحائط، فتساقطت أغصان كثيرة، فتوقفت. إذاً هو عشٌ بلا شك. هل فيه بيض أم بعد؟ فإن كانت الحمامة الأم لا زالت في طور بناء العش، فمن الممكن أن أزيله هنا، لتذهب وتبيض في مكان آمن فعلاً، فلا أضرّها ولا تضرّني. 

لكني لم أستطع التأكد، فالمكان بين المحرّك والحائط ضيق جداً ومرتفع ولا أستطيع أن أرى عمقه. حسناً، لجأت إلى والدتي. سألتها إن كانت لها تجربة في هذا الموضوع، فأجابتني وقد غلبتها الأمومة على عادتها "حرام يا ماما. اتركيها تفقس بيضها وامهليها لتطيّر الزغاليل"، ثم أضافت معيدة إياي إلى أرض الواقع: "في كلّ الأحوال لا يوجد تيار كهربائي يكفي لتشغيل المكيّف، أليس ذلك؟".

في لحظة، ضحكت! صحيح. أصلاً ما الذي جعل الحمامة تعتبر أنّ محرّك مكيفي آمن لدرجة أن تضع بيضها فوقه؟ فالطيور حذرة جداً، خاصة إناثها في زمن وضع البيض وحضنه. ولو لم تلحظ أنّ هذا المكيّف ساكن منذ أكثر من سنتين، لما تجرّأت وتهوّرت وبنت ذلك العش هناك. 

صحيح. فالسنة الماضية مثلا، كانت العتمة الشاملة هي سيدة المشهد خلال الصيف القائظ الذي خيّم برطوبته وحرّه على لبنان بعد إطفاء كافة معامل إنتاج الكهرباء. كانت لدينا مشكلة تأمين الغاز والفيول غير المغشوش لكلّ تلك المعامل. ولم يكن ذلك متاحاً كون المصرف المركزي لم يكن يقبل التنازل عن دولاراته (هي دولاراتنا في الحقيقة) لتمويل الكهرباء إلا بشق الأنفس. أما الاشتراك المتواضع "خمسة أمبير" في مولّد الحي، فلم يكن يسمح بتشغيل المكيّف. فلتشغيل هذا الأخير عليك أن تدفع كلفة "عشرة أمبير" على الأقل، وبالعملة الخضراء الصعبة جداً، وغير المتوّفرة للجميع.

كان ذلك السنة الماضية، أما اليوم فقد تحسّن الوضع. هكذا، "منّت" السلطة الحالية علينا أخيراً بست ساعات كهرباء يومياً. تصوّروا! صحيح أننا لا نعرف متى "تأتي" الكهرباء ومتى تنقطع، إلا أن ساعات التغذية حالياً كافية مثلاً لضخ المياه في الخزانات على سطوح البنايات، أو لتشغيل الثلاجة بضع ساعات من شأنها المحافظة على ما خُزّن فيها، كما أنّ قوّتها تكفي لتشغيل المكيف. 

لا تنفك السلطة الحالية في لبنان عن اعتبارنا مصدراً وحيداً لها، فتعصرنا وتعصرنا لتفادي مدّ اليد إلى جيوبها الممتلئة من أموالنا المسروقة وتضطر لإعادة بعضها

كيف حدثت هذه المعجزة؟ ببساطة بعد رفع الحكومة سعر كيلو واط الكهرباء على المواطن عشرة أضعاف كنوع من الحس بالمسؤولية تجاهه! هكذا، اندفع المواطنون، خصوصاً في المناطق والأطراف الأكثر فقراً، إلى نزع عداداتهم ورميها، أو على الأقل إلغاء، أو تخفيض مستوى اشتراكاتهم بكهرباء الدولة، مكتفين باشتراك المولد الخاص الذي كانوا يحتجون على ارتفاع أسعاره وفوضاه، والذي، على كلّ علاته، صار أرخص من كهرباء الدولة! 

لذا، من المحتمل أننا هذا الصيف سنشهد ارتفاعاً في ساعات التغذية، خاصة في المناطق التي تؤمن جباية لشركة الكهرباء، كنوع من مصدر لتمويل خزينة مفلسة، حيث لا تنفك السلطة الحالية عن اعتبارنا مصدراً وحيداً لها، فتعصرنا وتعصرنا لتفادي مدّ اليد إلى جيوبها الممتلئة من أموالنا المسروقة وتضطر لإعادة بعضها.

ولنعد للحمامة، فماذا إذا وصل التيار الكهربائي في ساعة "تخلٍ" واشتغل المكيّف؟ ما الذي سيحدث لزغاليلها الصغيرة؟

حسناً، فكرّت وقرّرت: فلتبق كما قالت أمي. فالصيف ما زالت دونه بضعة أسابيع تكون الزغاليل قد كبرت وطيّرت. بعدها، يكفي أن أشغل المكيّف لكي تفهم الطيور أنّ شرفتي لم تعد مكاناً آمناً، فتهاجر. تماماً كما فعل أولاد عائلتي المنتشرين في بقاع الأرض.