واه يا عبد الودود

07 يونيو 2024
+ الخط -

"آن الأوان يا ولدي ما عاد الا الميعاد

تنْفضّ الشركة واصل وينزاحوا الكلاب" 

 

تخرجُ الأغنيةُ القديمة باللهجةِ الصعيدية وصوت المغني الراحل، الشيخ إمام، من مخبئها في تلافيفِ الذاكرة فورَ قراءةِ الخبر. تحضرُ أمامي، كجنديٍ متأهبٍ بكاملِ عتاده للتعبيرِ عن الوجعِ والقهر والغضب لنبأ استشهاد الجندي المصري، عبد الله رمضان ورفيقه إسلام عبد الرازق حرّاس معبر رفح، برصاصِ الجيش الإسرائيلي الذي اجتاحتْ دباباتُه المعبر خلافاً للاتفاقيات بين مصر والكيان العبري. 

ما حقيقة ما حدث هناك يا تُرى؟

لا أحد يفيدك في الدولةِ البوليسية التي تقبضُ على قلوبِ وعقولِ أبناء النيل، محتجزةً شهامتهم ونخوتهم في نجدةِ المظلوم، رهينة الخوف والسجن والإخفاء القسري، وكيف يُفقّر الملايين، وتُسْحَبُ من أفواههم حتى لقمة "العيش الحاف" برفعِ دعمٍ حكومي لا قلب له عن الخبز، في حين تنحني رؤوس حكّامهم أمام المحتل المعربد ومعلّمه، لتقول: حاضر يا فندم.

"حاضر يا فندم"، الجملة التي لطالما تغزّلت بها والدتي في معرضِ احتفائها بالتهذيب واللطف المصريين، لا تتخذ المعنى ذاته على الحدودِ مع عدوٍّ استهلكَ كلَّ الصفاتِ والنعوتِ والشتائم في وصفِ إجرامه ووحشيته. حدود في مقلبها الآخر، يُذبح الغزاويون، لا بل يُبادون بكلِّ الطرق التي لم يتصوّرها حتى هولاكو.

دولة بوليسية تقبضُ على قلوبِ وعقولِ أبناء النيل، محتجزةً شهامتهم ونخوتهم في نجدةِ المظلوم

هناك، على معبرِ رفح الذي أقفلته مصر "رسمياً" أمس الأوّل، تصبح "حاضر يا فندم" صنواً لإذلالِ وقهرِ جندي يحملُ سلاحًا قيلَ له إنّه للدفاع عن وطنه، فتبيّن أنّه، كما أسلحة الملك فاروق، ارتدَّ ليقتله بعد استشهاده، بعدم الاقتصاص له من قاتله.

تقول الأغنية التي ألفها العبقري أحمد فؤاد نجم، في اليومِ التالي للنكسة وخطاب تنحي الرئيس الراحل الذي لا ينسى، جمال عبد الناصر: 

"واه يا عبد الودود

يا رابض ع الحدود

ومحافظ ع النظام

كيفك يا واد صحيح؟

عسى الله تكون مليح

وراقب للأمام".

والجندي عبد الله رمضان كان بالفعل "مُراقباً للأمام" في برجِ المراقبة على معبرِ رفح حيث كانت مناوبته. ومن هناك، شاهدَ تقدّم الدبابات الإسرائيلية واجتياحها للحدودِ المصريّة، فما كان منه، حسب رواية مصادر موثوقة، إلّا أن أطلق رصاصات تحذيرية في الهواء من رشاشه، ملتزماً قواعد إطلاق النار حسب الاتفاقية بين مصر وإسرائيل. لكن العدو لم يتوقف. فقام بإطلاق النار على الدباباتِ المتوغلة، وردَّ العدو بإمطارِ الجندي المصري بوابلٍ من رصاصاتٍ "جعلت جسده كالمصفاة"، حسب تعبير أحد المطلعين.

ما تفاصيل الذي حصل؟ وكيف قُتِل الجندي الثاني؟ ولمَ جُرِحَ ثالث لا يزال تحت الحراسة المشدّدة في مستشفى بالعريش؟ لا أحد يبوح بذلك.

 استهلكَ العدو الإسرائيلي كلَّ الصفاتِ والنعوتِ والشتائم في وصفِ إجرامه ووحشيته

اتفقَ المعتدي والمُعتَدى على سيادته أن يدفنا الحقيقة مع الشهداء. لماذا؟ مصلحة عليا؟ وما هي مصلحة مصر بـ"تطنيشِ" مقتل جنودها برصاصِ عدوٍّ وقحٍ قام بالاعتداءِ على السيادةِ المصرية أمام شاشاتِ العالم؟ هل هو الحرج من عدم استطاعة الردّ كما يقول البعض؟ أم الحرص على دورِ الوسيط؟ أم أنّه التزام بأوامرِ الضابط الأعلى الأميركي؟ أم هذا كلّه؟

قالت إسرائيل إنّه "حادث مؤسف". هل يعني ذلك أنّ إسرائيل كانت لا تتوقّع باجتياحها محور فيلادلفيا أن يردَّ عليها أحد؟ هل كانت تظن أنّه من المستحيل أن يتصدّى جندي مصري (أو أكثر) لها من برجِ مُراقبته؟ هل كان ذلك مفاجئاً لدرجة أنّه أدّى إلى ذلك "الحادث المؤسف"؟

كلّما بحثتُ وفتشتُ وفكرتُ، زادت الأسئلة ذات الإجابات المُبهمة: لمَ لمْ يُشيّع الشهيد الثاني إسلام سعيد إبراهيم عبد الرازق رسمياً؟ لمَ لم يُلف نعشه بالعلمِ المصري كما حصل مع الشهيد رمضان؟ لم اكتُفي له بتشييعٍ شعبي كما ظهرَ في الصور التي نشرتها الوكالات؟ والأهم كيف استُشهد؟ هل أطلق النار هو الآخر؟ ولم لا يزال الجندي الثالث الجريح تحت حراسة مشدّدة في مستشفى بالعريش؟

لا أحد يعلم. أو على الأصح: لا أحد يجرؤ أن يعلم. تقولُ إسرائيل إنّه كان حادثاً مؤسفاً. فعلاً. لكن لمن؟

العقل لا يستوعب والقلب لا يطاوعه أن يصدق كلّ هذا الخذلان، كلّ هذا العجز أمام أميركا وإسرائيل

"حاضر يا فندم". ربّما قالها الشهيد، عبد الله رمضان، كثيراً قُبيل مقتله لآمره الذي أمرَه بالبقاءِ في مكانه ساكناً، وألا يهتزّ له جفن لمذبحةٍ يُشاهدُ تكرارَها آناء الليل وأطراف النهار منذ شهور. ألا ينبس ببنتِ شفةٍ أمام إقفالِ المعبر الوحيد إلى النجاة لعشرات آلاف الأشقاء الفلسطينيين الجرحى، المهدّدين بالموتِ بمضاعفاتِ إصاباتهم، أو بأمراضٍ لم تعدْ تجد علاجها في غزّة. غزّة الممحوّة كلّ يوم، والتي تعود المقاومة لتكتبَ وجودَها مع كلِّ شروقِ شمس. أشقاء يُبادون بكلِّ وسيلةٍ قد يتصوّرها عقل: قصفاً، قنصاً، حرقاً، نزفاً، دهساً بالدبابات، اختناقاً تحت الأنقاض، غرقاً، عطشاً، جوعاً، قهراً، تعذيباً أو دفناً أحياء. لكن العدو داسَ الأراضي المصريّة. أهذا مسموح أيضاً يا فندم؟

"واه" فعلاً. ما أبلغها من تنهيدةِ ذهولٍ أمام ما يحصل: واضح، لكن العقل لا يستوعب والقلب لا يطاوعه أن يصدّق كلّ هذا الخذلان، كلّ هذا العجز أمام أميركا وإسرائيل.

ماذا أقول؟ لا ليس عجزًا. فالعجزُ يعني أنك أردت، لكنك أخفقت. هذا اسمه تواطؤ مع قرارٍ مُضمرٍ في تركِ الإبادةٍ تحدث، ولو بثمنِ دماء جنودٍ سالت على أرضِ رفح، وأُهيلت عليها رمال الخذلان.

في مقطع من الفيلم المصري "سيد العاطفي"، تمّ تداوله في معرضِ التعليق على خبر "الحادث المؤسف" على حدود رفح، تقول الممثلة القديرة عبلة كامل بأسلوبها الكوميدي المُوارب الذي يدّعي الهبل والبراءة أثناء قوله كلاماً بليغاً "طب انا كنت نايمة، جوم (جاءوا) قالولي: اصحي اصحي، مش انتي بقيتي مرات (زوجة) شهيد؟". وتضيف الممثلة المصرية "قلتلهم: الله! مرات شهيد إزاي؟ هو إحنا مش بالسلام؟ بدينا بالسلام وردت علينا الدنيا يا سلام يا سلام؟". وتضيف: "قالولي معليش، أصل إسرائيل غلطت، امسحيها فينا المرة دي". 

تصمتُ للحظة، ثم تقولُ وهي تبتسم تلك الابتسامة المنكَسِرة على حافةِ البكاء: "... ومسحتها".