"عجز" الفلسفة في مواجهة الموت
شغلت مسألة الموت بال كلّ إنسانٍ، على الأرجح، على الرغم من أنه قيل "إنّ ثمة شيئين لا يمكن أن يحدّق فيهما المرء: الشمس والموت". والموت موضوعٌ حاضرٌ لدى معظم الفلاسفة التأمليين، في حين أنه معدوم الحضور أو قليله لدى فلاسفة آخرين، تجريبيين أو ماديين. وبدا لكثيرين، أنّ الموت أساسيٌّ في حياة الإنسان لدرجة تحديد ماهية الإنسان من خلال علاقته مع الموت. فقد رأى الفيلسوف الألماني مارتن هايدغر أنّ الإنسان وجودٌ نحو الموت. لكن الفيلسوف الفرنسي، بول ريكور، رفض تعريف حياة الإنسان بتوجّهها نحو الموت، ورأى أنّ الإنسان وجودٌ أو حياةٌ إلى أن يحصل الموت، أو "حياةٌ حتى الموت"، في شذرةٍ أصبحت عنوان كتابٍ صدر بعد موته ويضم شذراتٍ أخرى. كما قيل إنّ ما يميّز الإنسان عن غيره من الكائنات الحية هو أنه يعرف أنه سيموت لا محالة. وثمّة اختلافٌ بين الفلاسفة حول ما إذا كانت تلك المعرفة حدسية فطرية أو تجريبية مكتسبةً.
وبدا لكثيرين أنّ الموت هو الشر الأكبر، وحدا بهم ذلك إلى السعي للتغلّب عليه وامتلاك إكسير الخلود، كما فعل جلجامش. في المقابل، أدرك عموم البشر حتمية الموت العضوي، فبحثوا عن الخلود بطرقٍ أخرى. وهناك من يفسّر الأعمال الفنية والأدبية والفكرية: كالتماثيل والأهرامات واللوحات والكتب والمقطوعات الموسيقية بأنها بحثٌ عن خلودٍ معنويٍّ يلتف على حتمية الموت العضوي. وقد حاول الفيلسوف اليوناني القديم، أبيقور، إزالة الخوف من الموت بالقول إنّ الإنسان لا يكون حيث يكون الموت موجودًا، فإذا كان الإنسان موجودًا فهذا يعني أنّ الموت غير موجودٍ، وإذا كان الموت موجودًا فهذا يعني أنّ الإنسان غير موجودٍ؛ فلمَ الخوف إذن؟
من الواضح أنّ أبيقور كان يرى أنّ الموت الذي يخشاه الإنسان الفرد هو موته الشخصي أي موت ذاته هو. لكن هل هذا هو حقًّا، وفقط، الموت الذي نخشاه، نحن البشر؟ هل الشر أو المأساة الكبرى عند كلّ إنسان، تتمثل حصريًّا أو بالدرجة الأولى، في موته الخاص أو الشخصي؟ إذا كانت الإجابة هي الإيجاب، فكيف نفسِّر تضحية كثيرين بأنفسهم لإنقاذ غيرهم أو من أجل قيمٍ ما يؤمنون بها؟
في القرن العشرين خصوصًا، وتحت تأثير هايدغر ومركزية الموت في فلسفته وفي رؤية تلك الفلسفة لماهية الإنسان خصوصًا، حصل تحولٌ (فلسفيٌّ) مهمٌّ، في تناول مسألة الموت، فلسفيًّا. فمن ناحيةٍ أولى، رأى الفيلسوف الفرنسي، ألبير كامو، أنّ السؤال الفلسفي الأساسي ليس سؤالًا عن الموت في حدّ ذاته، وإنما هو سؤالٌ عن الحياة وعن مدى استحقاقها أن تعاش أم لا. إجابة كامو كانت نيتشوية: نعم للحياة، ولا للموت أو للانتحار، حتى عندما يكون هناك افتقادٌ (مظنونٌ) للمعنى، كما في حالة أسطورة سيزيف. وثمّة أملٌ أو إمكانيةٌ لخلق أو اختلاق الأمل دائمًا. فالأمل هو العنصر الوحيد أو الأهم الذي يعيننا في هذه الحياة التي تشبه صندوق باندورا المليء بكلّ أنواع الشرور، وفي مقدمتها الموت. من ناحيةٍ أخرى، رأى الفيلسوفان الفرنسيان إيمانويل ليفيناس وجاك دريدا أنّ الموت الذي ينبغي الحديث عنه، بالدرجة الأولى، ليس موتي الخاص أو الشخصي، وإنما موت الآخر الذي أحبه. فهذه هي النهاية المفجعة، وهذا هو الموت بأل الجنسية التي تدل على القصر. فالموت هو نهاية من نحبهم. وربما يبدو ذلك واضحًا في دعائنا أو تمنينا أن نموت قبل موت أحبابنا، أو أن يعيش من نحبّ لمدةٍ أطول منّا. ونجد ذلك واضحًا في تعبيرات أو دعوات مثل: "تقبرني"، تشكل آسي" ... إلخ. ووفقًا لدريدا، لا يعيش الإنسان بعد أن يفقد من يحبه، وإنما يبقى على قيد الحياة، فحسب. وبالتأكيد لا يبقى الإنسان كما كان قبل موت من يحبه.
قد يخفّف الاعتقاد الديني بالحياة الأخرى من وطأة الموت، لكنه لن ينهي، غالبًا على الأقل، الشغف بالحياة (الدنيا) ولا الألم الناتج عن الشعور بحتمية مفارقتها وإمكانية حصول ذلك في أيّ لحظةٍ
من الذائع الاعتقاد أنّ الإنجاب هو إحدى وسائل التغلّب على الموت ﻓ "يلي خلَّف ما مات". فذريتنا تضمن بقاءنا بعد موتنا، فهي استمرارٌ عضويٌّ لنا، وهي تحمل أسماءنا (نحن الذكور خصوصًا)، ونكون مستمرين معنويًّا أيضًا معها. أعتقد أنّ هناك نقطة أساسية غائبة في هذه الحجة التي ترى في الإنجاب انتصارًا على الموت أو تخفيفًا من الخوف منه أو من ألم حتميته. ولهذا ينبغي استحضار رؤية ليفيناس ودريدا في هذا الخصوص. مع الإنجاب يكون هناك شعور بالحب تجاه أطفالنا وبالمسؤولية عن رعايتهم، ولهذا يصبح خوفنا من الموت مضاعفًا ومتعدّد الأبعاد. فنحن نخاف على أطفالنا من أيّ أذى، فضلًا عن الموت، ونخاف على أنفسنا من الموت لأنّ ذلك يُيتِّم أطفالنا ويجعلنا غير قادرين على الاضطلاع بمسؤولية رعايتهم. وعلى هذا الأساس، يمكن للإنجاب أن يعقِّد المشكلة، بقدر ما يسهم في التخفيف منها، وربما أكثر. فالإنجاب قد يدفعنا إلى زيادة التمسّك بالحياة أكثر مما يسمح لنا بالتصالح مع فكرة الموت.
رأى كثيرون إمكانية أن يكون الدين أو التدين إحدى الإجابات الممكنة عن سؤال الموت. فثمّة حينها حياة أخرى خالدةٌ بعد هذه الحياة الفانية. والقول بوجود الدين، وبوجود تلك الحياة، لا يسهم في حلّ معضلة الموت فحسب، بل يسهم أيضًا في حلّ المعضلة الأخلاقية المتمثلة في غياب العدالة عن هذا العالم. ففي الآخرة أو الحياة الخالدة الأخرى، سيجزى الصالح ويجازى الطالح، في حياة خالدة لا يشكل الموت نهايةً أكيدةً أو محتملةً لها.
قد يخفّف الاعتقاد الديني بالحياة الأخرى من وطأة الموت، لكنه لن ينهي، غالبًا على الأقل، الشغف بالحياة (الدنيا) ولا الألم الناتج عن الشعور بحتمية مفارقتها وإمكانية حصول ذلك في أيّ لحظةٍ. وقد يشعر من فقد إيمانه بخسارة بعض الطمأنينة، لأنّ الموت سيكون حينها ليس إمكانيةً بين الممكنات فحسب، بل نهاية محتومة لكلّ الممكنات. ورأى هايدغر أنّ كلّ محاولة للتملّص من هذه الحقيقة، إنما هي لاهوتٌ وجوديٌّ، يتخذ في بعض الأحيان صيغة الدين أو اللاهوت الديني.
يصعب على الإنسان بوصفه كائنًا حيًّا، أن يطبِّع علاقاته مع الموت، سواء أكان ذلك يخصّ موته الشخصي أم موت من يحبه، تطبيعًا كاملًا
كتب الفيلسوف البريطاني، آلان دو بوتون، كتاب "عزاءات الفلسفة"، ليخبرنا، كما يشير العنوان الفرعي للكتاب "كيف تساعدنا الفلسفة في الحياة". يمكن المجادلة في إمكانية أن تساعدنا الفلسفة في الحياة، لكنّ ثمّة شكوكاً قوية في إمكانية أن نجد في الفلسفة أو بالفلسفة بعض العزاء أو الخلاص في مواجهة الموت، كما فعل بواتيوس صاحب كتاب "عزاء الفلسفة". وثمّة فلاسفةٌ رأوا أنه ليس لدى الفلسفة ما تقدّمه لهم في هذا الخصوص. وهذا ما حصل، على سبيل المثال، مع الفيلسوف الأميركي، ريتشارد رورتي، الذي رأى، بعد معرفته بإصابته بالسرطان وبدنو أجله، أنه ليس لدى الفلسفة أو الدين ما يمكن أن يكون مجديًا أو مناسبًا في مواجهة الموت وقد وجد رورتي ضالته في الشعر.
وربما هناك من يظن للحظةٍ أو أكثر أنه تصالح بالفعل مع فكرة موته، ومع فكرة أن يستمر العالم بدونه وبلا أي اكتراثٍ به. لكن هل ينفي كلّ ذلك، وغيره، أنَّ فكرة الموت مضادةٌ لفكرة الحياة، وأنّه يصعب على الإنسان بوصفه كائنًا حيًّا، أن يطبِّع علاقاته مع الموت، سواء أكان ذلك يخصّ موته الشخصي أم موت من يحب، تطبيعًا كاملًا؟
ربما كان السؤال الخطأ الذي ينبني عليه مثل هذا السؤال وما يماثله هو أنه لا يأخذ في الحسبان ماهية البدائل المتاحة أمام الإنسان، وما المعاناة التي يعيشها والحياة التي يحياها أو يعيشها، والتي تجعله أو "ينبغي أن تجعله" يدرك معقولية موته الخاص، في أحيانٍ ليست قليلةً. فلو افترضنا أنّ الموت العضوي للإنسان ليس أمرًا محتومًا، هل يستطيع الإنسان فعلًا مواكبة الحياة وتغيّراتها و"تحمّل مشاق خلوده"؟
ليست هناك إجابة بسيطة أو سهلة عن السؤال الذي سيكون موضوع المدونة القادمة.