طفولة أمتنا المذبوحة

06 فبراير 2022
+ الخط -

الساعة الآن تجاوزت منتصف الليل بقليل، أتصفح الأخبار العاجلة بتثاقلٍ واضح، ويكون الخبر الأساسي في جل الحسابات الإخبارية "الطفل ريان قد فارق الحياة".. مأساة كبرى حدثت في المغرب أكتب عنها لأنني ما استطعت الكتابة إبان المحنة، فقد استعصت عليّ كتابة سطرٍ واحد، وقد رأى كلٌ واحدٍ منا في ريان كل أطفال العالم، ولم أستطع إلا الترقب عله خبر مفرح يظهر ضوءه في آخر النفق.. أكتب في اللحظات الأخيرة من اليوم الخامس من شباط/فبراير 2022، والطفل الذي بقي في الجب لخمسة أيام قد فارق الحياة، تبكيه أسرته ويبكيه كل صاحب قلب في هذه الدنيا.

أسجل زفراتي هنا، وأتخيل والديه وهما يصبّران نفسيهما بكل ما في الدنيا من عبارات التوكل والتفاؤل، ولسان حاليهما لو يستطيعان احتضانه ولثم وجنتيه، وشم عبيره.. أدوّن مشاعري وأنا القابع في إسطنبول وبيني وبينه آلاف الكيلومترات ولا أكاد أجد سلوى لقلبي بعد الخبر، فكيف بوالدته ووالده..

أسجل هذه الذكرى الحية، لأخبر من سيقرأ كلامي عن دولٍ تقاتل السحاب، وتُعلن الحروب على مطاحن الهواء، ولكنها تعجز عن إخراج طفل من البئر، أكتب عن طفل فارق الدنيا في بقعة صغيرة ضئيلة وهو مصاب وجائع وجسده النحيل يرتجف بردًا وتعبًا.. كم نادى أمه، وكم استغاث بأبيه، كم بكى وشهق وزفر ونام وحنّ وأنّ والتاع.. حتى فاضت روحه الطاهرة إلى بارئها.

ألف ألف لعنة على أنظمة تملأ القصور بالفاره من كل أثاث، ولكنها لا تملأ بلادها بالعدل والقسط والطمأنينة.. ولا تنقذ طفلاً سقط في بئر..

ليست طفولة "ريان" هي الوحيدة القاتمة، ففي الأسابيع الأخيرة صورٌ مؤلمة للأطفال والطفولة في عالمنا المنكوب، من ريان وهو في مضجعه الأخير إلى صرخات الطفل فواز في درعا الذي يعذب على يد خاطفيه، وقبلهم ومعهم وبعدهم أطفال يعانون كل مرارات الدنيا، يقاومون الهزال وسوء التغذية والبرد في مخيمات اللجوء، وفي اليمن والروهينغا وكشمير وأفغانستان.. ومثلهم أطفال القدس الذين تنتهك طفولتهم إرهابًا وتعسفًا من الصهاينة، وأطفال الإيغور وما يعانيه ذلك الشعب الباسل.. وفي مقدمة الركب أطفال أمتنا الشهداء ممن ارتقوا في سورية واليمن وغزة والعراق وأفغانستان.. وفي الأولى بحار من الدموع أريقت على أجساد غضة ترتجف من الغازات الكيماوية، وجلاوزة قساة كأنهم من نسل إبليس يعذبون ويضربون.. لم تختف المشاهد من الذاكرة، ولكننا نكذب على أنفسا بأننا نسينا.

لفت نظري عمل فني لمصور قسم صوره إلى قسمين، في الأول طفل يعاني في واحدة من بلادنا البائسة، وفي الشطر الثاني صورة لطفلٍ يحيا بهناء وطمأنينة في تلك الدول الكبرى الاستعمارية، كلما رأيت هذه الصور أتذكر قول مالك بن نبي، بأن الغربي لا يحمل فضائله خارج بلاده، بلادنا حقولٌ من الموت، وأشباحٌ تلتقطهم بلا هوادة.. أعود إلى ريان وإلى كل طفلٍ مرت ملامحه أمامنا، هل بلغ العجز مني أن يكون جل ما أفعله تدوين هذه العبارات.. الأمة ليست واهنة، بل الوهن فينا..

وهنٌ يدفعني إلى أن أسجل مواقفي، كحال تلك التنظيمات البالية، أرفعها شعارات، ولكنها كل ما أملكه بكل أسف.. ألف ألف لعنة على كل حاكم جبار أجرم بحق شعبه وصب عليهم براميله القذرة.. فمن لم يمت بالنار والبارود، توقف قلبه الصغير من صوت الانفجار..

ألف ألف لعنة على نظام عالمي يمد في عمر القتلة عامًا بعد آخر.. حتى يمل عداد الموت من تسجيل رقم الطفل التالي.. ألف ألف لعنة على أنظمة تملأ القصور بالفاره من كل أثاث، ولكنها لا تملأ بلادها بالعدل والقسط والطمأنينة.. ولا تنقذ طفلا سقط في بئر.. لقد أوى ريان إلى جذع متين، والتقطت روحه الطاهرة ملائكة سارت إليه من ملكوت العزيز الجليل.. خرج من الجب طيرًا من طيور الجنة، من ضيق البئر، وضيق الدنيا إلى سعة الآخرة، في وجهه المخضب بالدماء حكايات وجوه أطفال أمتنا، من قانا إلى بانياس والغوطة وغزة وإدلب.. عن طفولة مذبوحة، وعن أمة واهنة ضعيفة، طفلٌ يوحدها، وألف شيطان يوقد فيها نيران الخصومة والتشرذم.

كلنا سينسى بعد حين، ولكن قلوب الأمهات لا يمكن أن تنسى، اللهم صبر والدته، واربط على قلبها، إنك سميعٌ ومجيب.

دلالات
31613475-73A0-4A3D-A2F9-9C1E898C5047
علي حسن إبراهيم

باحث في مؤسسة القدس الدولية. كاتب في عدد من المجلات والمواقع الالكتروية. عضو رابطة "أدباء الشام".