صاعقة اغتيال نصر الله تهزّنا جميعاً مؤيدين ومعارضين
هلا نهاد نصرالدين
يعيشُ اللبنانيون والمنطقة حالةً من الصدمة والهلع بعد الأحداث الأخيرة في لبنان، خاصّة مع العدوان الإسرائيلي على الضاحية الجنوبية لبيروت والكثير من المناطق اللبنانيّة. لا يفاجئنا إجرام العدو، فبعد نحو سنة من حربه الإباديّة على قطاع غزة، نعلم أنّه لا يأبه بالمواثيق الدوليّة أو قوانين الحرب ويتعمّد استهداف المدنيين.
تفاقمت الصدمة نتيجة اغتيال الأمين العام لحزب الله حسن نصر الله في غارةٍ جويّة إسرائيليّةٍ على بيروت. نصر الله، الرجل القوي الرصين، كان له تأثير كبير على الساحة السياسيّة اللبنانيّة والعربيّة لعقود، وها هو اليوم يغيب عن المشهد، وعن هذه الساحة.
لم أكن أتخيّل يومًا أن أشهد مقتل نصر الله. هذا الشعور غريب جدًا، حيث أعيد مشاهدة خطابه الأخير، وبدلًا من التركيز على كلامه والرسائل المبطّنة في خطابه كما جرت العادة، ألاحظ مظهره المُتعب والمُنهك. لطالما اعتبر الكثير منّا في الداخل اللبناني أنّ الخطر الحقيقي في لبنان يأتي من حزب الله، واختلفنا معه في قضايا متعدّدة. لكن اليوم، أمام حقيقة اغتياله الصادمة والقاسية، نجد أنفسنا عاجزين عن التعبير والبوح، إذ إنّ مشاعرنا مضطربة بالفعل.
نشعرُ جميعًا بالعجز حيال ما يجري وما سيجري، وحيال المجازر التي يرتكبها الاحتلال الإسرائيلي في لبنان. كنّا دائمًا نترقب خطاب نصر الله لفهم ما يجري وما قد يحدث، وهل يجب أن نقلق أم نطمئن. لكن اليوم، لم يعدْ ذلك ممكنًا، ولم يبقَ لنا سوى الانتظار.
أمّا عمّا حصل في الأيّام الماضيّة في لبنان من قتل للمدنيين واستباحة دمائهم، فكما قال الكاتب اللبناني جهاد بزي، "إنّها القيامة". وبالفعل إنّها القيامة. لقد مللنا الحديث عن قدرةِ لبنان على الصمود وعن تميّز لبنان وشعب لبنان في هذا الإطار. شعب لبنان اليوم مكسور بعد الإجرام الدامغ واستباحة سيادته وسفك دماء المدنيين فيه.
شعب لبنان اليوم مكسور بعد الإجرام الدامغ واستباحة سيادته وسفك دماء المدنيين فيه
لكن لبنان دائمًا ينهض. أذكر عند انفجار مرفأ بيروت في أغسطس/ آب 2020، كنت أجزم أنّ الشمس لن تسطع مجددًا، ولن نرى ضوء النهار من جديد. لكنّنا نهضنا رغم الألم والحسرة التي لم تفارقنا منذ ذلك الحين. ما زلنا نحمل معنا هذه المأساة، وتُضاف إليها اليوم مأساة جديدة وصدمة أو "تروما" جديدة. لربما تكون هذه "التروما" الجماعيّة هي التي تربطنا كوننا لبنانيين وتزيد تعلّقنا بالوطن.
عندما أكتب مقالاتي عادةً يكون لديّ هدف أو رسالة لأشاركها، أمّا اليوم فأكتب من حسرةٍ وضياع من دون هدف أو أفق واضح، كما حال معظم اللبنانيين.
اختلاطُ المشاعر لدى الكثير من اللبنانيين، خاصّة الليبراليين واليساريين، يظهر جليًا. لطالما كانت معركتنا الأساسيّة داخليًا مع حزب الله وسلبه سيادة لبنان وقراره ومصيره. لكن اليوم الوضع مختلف، فالقاتل هو العدو الإسرائيلي.
لم أتوقع يومًا أن أحزن على نصر الله. رغم اختلافاتنا العميقة مع الحزب في قضايا مثل دعمه النظام السوري والمجازر التي ارتكبها بحقِّ السوريين، ودور الحزب في اليمن والعراق، بالإضافة إلى انتهاك سيادة لبنان واستخدام فائض القوّة لفرض واقع سياسي فيه، كانت شخصيّة نصر الله جاذبة بسبب الكاريزما والقدرات القياديّة والثبات وقوة التعبير. اليوم ننعى ونركّز على نصر الله الفرد، لا على حزب الله، فالتحدّي الأكبر للحزب سيكون في إيجاد قائد خلفًا له.
لطالما كانت معركتنا الأساسيّة داخليًا مع حزب الله وسلبه لسيادة لبنان وقراره ومصيره. لكن اليوم الوضع مختلف، فالقاتل هو العدو الإسرائيلي
فنصر الله جاء من عائلةٍ متواضعة وعاش حياة بسيطة. أعلن في مقابلةٍ تلفزيونيّة سابقة أنّه لا يتقاضى أكثر من 1400 دولار أميركي من حزب الله. لم يكن قائدًا منفصلًا عن الناس؛ فقد قُتل ابنه البكر هادي نصر الله عام 1997 في مواجهات مع العدو الإسرائيلي في إقليم التفاح.
تتجلّى الآثار النفسيّة والاجتماعيّة لهذه الأحداث في مشاعر مختلطة بين اللبنانيين. هناك خوف حقيقي من المستقبل المجهول للبنان الذي يواجه تحدّيات كبيرة من دون قيادةٍ واضحة أو استقرار سياسي. فليس هناك رئيس للجمهورية، والحكومة الحاليّة هي حكومة تصريف أعمال، وبالكاد تصرّف أو تقوم بأيّ أعمال. يحاول بعض الوزراء، مثل وزير الصحة فراس الأبيض ووزير البيئة ناصر ياسين، التعامل مع الحالة الطارئة، إلا أنّ اللبنانيين بشكل عام يشعرون بأنّهم متروكون لمصيرهم، حيث يعاني أهل الضاحيّة الجنوبيّة والجنوب من التهجير المستمر والقتل.
نشاهد لبنان وهو يتحول إلى غزّة أخرى على مرأى العالم بأكمله، وسط إداناتٍ واستنكار وحجج واهية لقتل المدنيين. في ظلِّ هذه الظروف المعقدة، يبقى السؤال حول مستقبل لبنان وكيفيّة تجاوز هذه الأزمة المُلحة من دون إجابةٍ واضحة.
من المؤسف أن يُترك لبنان لمصيره في مواجهة آلة العنف والقتل الإسرائيلية بعد أن لعبت الشخصيّات اللبنانيّة أدوارًا مهمّة في المعاهدات والمنظّمات الدولية المعنية بالسلام. كان لبنان واحدًا من 51 عضوًا مؤسّسًا للأمم المتحدة ووقع على ميثاقها عام 1945، ولعب دورًا حيويًا في إنشاء هذه الهيئة الدولية لتعزيز السلام والتعاون بين الدول. كما لعب الدبلوماسي اللبناني البارز شارل مالك دورًا أساسيًا في صياغة الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الذي لا يزال يؤثّر على القانون الدولي اليوم.
أما عن الدور الإيراني، فأتركه كجملةٍ واحدة في نهاية المقال لأنّه لا يستحق أكثر من ذلك!