أميركا والبوصلة الأخلاقية المفقودة
هلا نهاد نصرالدين
لا شك أنّ موضوع الذكاء الاصطناعي أصبح اليوم حديث الساعة في عالمنا، فهو يتصدّر عناوين الأخبار في مجالات الصحافة والتكنولوجيا والأوساط الأكاديمية، وحتى في مجال الحرب والقدرات العسكرية. لقد أصبح محور النقاشات والتدريبات في كافة المجالات إلى درجة أنّه أصبح ممّلًا بعض الشيء. الروايات والأفلام السينمائية كانت سبّاقة في هذا المجال، وكانت قد بدأت في تناول الموضوع قبل أن يصبح اتجاهًا سائدًا.
خلال رحلة عودتي من سفري الأخير، شاهدت على متن الطائرة فيلم "The Creator" (المبدع) للمخرج غاريث إدواردز، والذي تمّ إطلاقه في دور السينما في المنتصف الثاني من العام الماضي 2023. الفيلم، كغيره من الأفلام والكتب والأعمال الفنية، يتناول المخاوف المتعلّقة بعالم الذكاء الاصطناعي وما قد يؤول إليه مستقبلًا. ومع ذلك، لم يصوّر الفيلم الذكاء الاصطناعي كخطر أو "شرّ مطلق". وما يميّز هذا الفيلم ليس قدرات الذكاء الاصطناعي والنقاش حوله بل الرسائل السياسية التي يتناولها ونقده الضمني للحرب. فبينما اعتدنا على مشاهدة الأفلام الأميركية التي تظهر "بطولة" الأميركيين، وأنّهم دائمًا على حق، وهم "المنقذون" من المخاطر الوجودية التي تلاحق العالم ويوجّهون البوصلة الأخلاقية، يقدّم هذا الفيلم سيناريو مختلفًا. فينتقد العقلية الأميركية القائمة على الأحادية والتمييز بين "نحن" و"هم"، وهي نفس العقلية التي تبناها الرئيس السابق، جورج بوش، عندما قال بعد هجمات 11 سبتمبر/أيلول 2001: "إما أن تكونوا معنا أو مع الإرهابيين". وكانت لهذه العقلية آثار وخيمة في نهاية المطاف.
للولايات المتحدة الأميركية تاريخ واسع من الحروب التي خاضتها على أراضي دول العالم الثالث من فيتنام إلى أفغانستان فالعراق. "نصف قرن من المغامرات الأميركية الفاشلة، من فيتنام إلى أفغانستان. منذ الحرب العالمية الثانية، خسرت الولايات المتحدة تقريبًا كلّ حرب شاركت فيها في دولة نامية… وعدم قدرة قوة عالمية على الفوز في حروب صغيرة أو متوسطة في صراعات غير متكافئة"، كما جاء في مقال على موقع جامعة أستراليا الغربية. انتهت "المغامرة" الأميركية بسيطرة حركة طالبان على أفغانستان بعد 20 عامًا من الحكم الأميركي هناك.
للولايات المتحدة الأميركية تاريخ واسع من الحروب التي خاضتها على أراضي دول العالم الثالث من فيتنام للعراق وأفغانستان
بالعودة إلى الفيلم، تنطلق أحداث الفيلم بعد انفجار نووي في لوس أنجليس اتُّهم به الذكاء الاصطناعي، ما أدّى إلى حظر الأخير في الولايات المتحدة الأميركية والغرب بشكل عام، وإلى إعلان الحرب على "آسيا الجديدة" (New Asia) التي يعيش فيها الذكاء الاصطناعي مع البشر جنبًا لجنب، والتي رفضت التخلّي عن الذكاء الاصطناعي، لا بل دمجته في مجتمعاتها.
يتبيّن في نهاية الفيلم أنّ الانفجار في لوس أنجليس كان نتيجة خطأ بشري في برمجة استخدام الذكاء الاصطناعي. أعاد ذلك بي الذاكرة إلى اتهامِ العراق بحيازةِ أسلحة دمار شامل، الأمر الذي استخدمته الولايات المتحدة الأميركية كذريعة لغزو العراق، ليتبيّن لاحقَا أنّ الاستخبارات الأميركية كانت على خطأ. في سياق مشابه، في الفيلم استخدمت الولايات المتحدة الأميركية الذكاء الاصطناعي وحيازة "آسيا الجديدة" لسلاح AI خطير من أجل غزو "أسيا الجديدة"، إلّا أنّ الفيلم أيضًا انتهى بفشل "المغامرة الأميركية" في تحقيق الفوز.
إذًا يطرح الفيلم حربًا أميركية جديدة بنفس العقلية، وذلك عام 2070، ولكن هذه المرّة على عدو جديد وهو عالم الذكاء الاصطناعي، وعلى "آسيا الجديدة"، ليظهر النزعة العدائية للسياسة الأميركية التي غالبًا ما تنطوي على التدخل العسكري والهيمنة الثقافية وغياب تقبّل الآخر. يصوّر الفيلم تحالف "آسيا الجديدة" بين البشر والذكاء الاصطناعي كمجتمع متسامح ومتعدّد الثقافات، على النقيض من الغرب العدواني.
تستخدم إسرائيل طائرات بدون طيار ممكّنة بالذكاء الاصطناعي تمكنها من رسم خرائط لشبكة الأنفاق الواسعة لحماس في غزّة
يُذكّر الفيلم بطريقة غير مباشرة بحرب فيتنام، حيث يسعى الجيش الأميركي لتدمير "الآخر"، "آسيا الجديدة" في هذه الحالة. يسلّط ذلك الضوء على النظرة الأميركية الدونية للآخر. فتُصوّر الولايات المتحدة "الآخر" الآسيوي على أنه عدو غامض، وغير إنساني، يجب هزيمته والقضاء عليه، ويعكس هذا التنميط الاستشراقي والخوف من الشرق. وينسحب هذا الخوف أيضًا على كلّ من هو مختلف، فالإسلاموفوبيا في الولايات المتحدة الأميركية مثلًا تشكّل تحدّيا كبيرا للدول:
-بين السابع من أكتوبر/تشرين الأوّل والرابع من نوفمبر/تشرين الثاني 2023، تلقّى مجلس العلاقات الأميركية الإسلامية (CAIR) 1,283 طلباً للمساعدة وتقارير عن التحيّز، في حين تلقّت المنظمة فقط 406 شكاوى في متوسط فترة تبلغ 29 يوماً خلال عام 2022، بحسب نقابة المحامين في ولاية نيويورك.
-وصف CAIR هذه الزيادة بأنها "غير مسبوقة" وأكبر موجة للإسلاموفوبيا منذ اقتراح حظر الرئيس السابق دونالد ترامب للمسلمين في عام 2015.
-وفقاً لبيانات مكتب التحقيقات الفدرالي (FBI)، فإنّ جرائم الكراهية ضد المسلمين قد انخفضت من ذروتها التي بلغت 310 حالات في عام 2016، لتنخفض إلى 129 في عام 2020، لكنها ارتفعت مرّة أخرى لتصل إلى مجموع 158 في عام 2022.
كما يطرح الفيلم مخاطر التكنولوجيا العسكرية المتقدّمة، حيث يتم استخدام الذكاء الاصطناعي كسلاح في الحرب. في هذا السياق، لا بدّ من الإشارة إلى استخدام إسرائيل للذكاء الاصطناعي في حربها على غزّة. وفي هذا السياق، تمكن الإشارة إلى:
-تستخدم إسرائيل نظام استهداف يعمل بالذكاء الاصطناعي يسمّى "غوسبيل" أو "هبسورا": وهو نظام ذكاء اصطناعي يحدّد الأهداف بسرعة في غزّة بناءً على بيانات استخباراتية. وقد زاد ذلك بشكل كبير من وتيرة تحديد الأهداف مقارنة بالأساليب التقليدية، "من 50 هدفًا بالسنة إلى 100 هدف باليوم الواحد"، بحسب صحيفة ذا غارديان البريطانية.
البوصلة الأخلاقية للدول الغربية بشكل عام والولايات المتحدة الأميركية بشكل خاص تائهة، لا بل مفقودة
-تستخدم إسرائيل طائرات بدون طيار ممكّنة بالذكاء الاصطناعي تمكنها من رسم خرائط لشبكة الأنفاق الواسعة لحركة حماس في غزّة، بالإضافة إلى عدد من تقنيات الذكاء الاصطناعي الأخرى المستخدمة في الحرب.
قد يكون فيلم "The Creator"، وبعض الأفلام والأعمال الفنية المشابهة خطوة مهمة في الاتجاه الصحيح من ناحية كسر الصور النمطية التي لطالما روّجت لها الأفلام الأميركية التقليدية، خصوصًا في ما يتعلّق بالدور الأميركي المنشود "لنشر القيم الإنسانية والديمقراطية ومحاربة الأشرار حول العالم"، فهذه الأعمال الفنية تنقض هذه السردية، وتكشف، وتنتقد أيضًا جانبًا آخر أكثر واقعية من السياسة الخارجية الأميركية القائم على التدخل العسكري والهيمنة بدلًا من الدبلوماسية والحلول السلمية.
أهم ما نصّت عليه أجندة الرئيس الحالي، جو بايدن، كانت الدبلوماسية في التعامل مع الأزمات السياسية، إذ هو الرئيس مع الخبرة الكبرى في السياسة الخارجية، إلّا أنّه سرعان ما تخلّى عن خطابه المعهود، ودعم إسرائيل في حربها على غزّة، وبالتالي لم يعارض المجازر وجرائم الحرب بحق الشعب الفلسطيني في غزّة.
للأسف، كشفت هذه الحرب ازدواجية المعايير الغربية والأميركية بشكل خاص. وفي عصر يتزايد فيه الاستقطاب والصراع، وتقف فيه الدول الغربية التي لطالما تغنّت بدعمها للبوصلة الأخلاقية، موقفًا متناقضًا. وهنا تصبح رسالة الفيلم أكثر أهمية من أيّ وقت مضى.
هل سنشهد في العام 2070، العام الذي تدور فيه أحداث الفيلم، تكرارًا للسيناريوهات الماضية؟ هل ستبقى الولايات المتحدة الأميركية تعتمد النهج نفسه؟! للأسف في ضوء ما يحدث، لست متفائلة بمستقبل أفضل، ولكنني أؤمن بالدور الحيوي للفن في تعزيز الوعي وتغيير الرأي العام على المدى البعيد، على الأقل في معرفة أنّ البوصلة الأخلاقية للدول الغربية بشكل عام والولايات المتحدة الأميركية بشكل خاص تائهة، لا بل مفقودة.