سينما هيلتون
الموت يبدأ بالذاكرة، وموت الذاكرة أقسى أنواع الموت، ففي قبضته تعيش موتك وأنت حي، وتُرد وأنت لا تدري إلى الأمية.
الكلمات الآنفة لنجيب محفوظ تتجلى على شاشة سوداء كفاتحةٍ لفيلم وثائقي قصير فيه ملامحٌ روائية. تسودُه العَتمة والصقيعُ والسكون.. تحت مسمى: “في عزاء الذاكرة".
تدور الأحداث حول سينما هيلتون التي كانت قد أُنشِئت في منطقة المريجة الواقعة في ضاحية بيروت الجنوبية، أو ما كان يُعرَفُ آنذاك بساحلِ المتن الجنوبي.
رافق افتتاح السينما الشرارة الأولى للحرب الأهلية اللبنانية في سبعينيات القرن الماضي، فكانت ولادتها عسيرة في واقعٍ مرير خيّم على محيطها الجغرافي حالها حال مُختلف أنحاء البلاد.
الواقعُ الذي كان مغايراً قبل الحرب، اذ إن مناطق المريجة، الليلكة وتحويطة الغدير، ذات الأغلبية المسيحية حينها، كانت قرى وادعةً تزينها البساتين التي كانت مصدر رزق قاطنيها. لاحقاً.. اجتاحت المنطقة حركة تمدُّن انعكس عليها ازدهارا، فتوسّعت الطُّرق وارتفعت المباني وانتشرت المقاهي والمحال كما وانفتحت على باقي المناطق اجتماعيا واقتصاديا.
كل هذا النعيم اندثر في لمحة عين، وتحولت المقاهي إلى ثكنات، والطرقات إلى معابر عسكرية، والمباني الى سواتر للمتناحرين. ثم كانت عمليات التطهير والتهجير، التي أسهمت مع عوامل أخرى في تغيير ديموغرافيّة منطقة المريجة بشكلٍ حاد.
إزاء كل هذه النكبات، كانت سينما هيلتون تعاوِد النهوض من تحت الرماد بعد كل إغلاقٍ قسري كانت تفرضه عليها الحرب، رغم وابل الرصاص والقذائف التي تلقتها والتي ما زالت كدماتها محفورة على جدرانها حتى اليوم.
سينما هيلتون. بما كانت تمثله من مظاهر الجمال والفن كانت النقيض والعدو الأزلي للحرب الدائرة. لذا نرى أنها في وقتٍ لاحق أمست ملجأً للعائلات الهاربة من براثن المتقاتلين حينا أو من العدوان الإسرائيلي أحياناً أخرى، وقد أسهم في ذلك وجودها تحت الأرض بطابقين ما يعطي لمن يذود بها شعوراً بالأمان المنعدم خارج جدرانها.
اللاجئون الذين كانوا جثثا حية يغصُّ بهم القبر العميق محاولا أن يمسح عن جباههم آثار الخوف والصقيع دون جدوى.
كما يروي أحد الذين عايشوا هذه الحُقبة أن طريق اللاجئ إلى السينما لم يكن سهلاً، فأحياناً كان يتربص قناص على بعد أمتار موجها بندقيته الى المدخل، والذي كان بمثابة الجسر بين الموت والدمار من جهة، والحياة والجمال والفن.
ومن أوضح "المصاديق" التراجيدية المرتبطة بسينما هيلتون، أن الشبّان المرتادين لها كانوا ينشدون نسيان واقعهم الدامي في الخارج والترويح عن أنفسهم أمام شاشتها. لكنهم وبشكل لا واع كانوا يختارون أفلام الحرب والقتال والأبطال الخارقين، ثم يتقمصون شخصياتها على أرض الواقع بين بعضهم في معارك مصغرة قد تصل الى إطلاق الرصاص أحياناً.
لم ينته الأمر عند هذا الحد، فالسينما التي ظلمها الواقع، لم تنصفها الذاكرة. حتى القلة الذين تذكروها عدّوها معلماً من معالم الحرب لا صرحاً للفن والثقافة.
لم تفن "هيلتون" دفعة واحدة، بل ماتت سريرياً قبل موتها الفعلي، كان ذلك عندما تناسى روادها جوهرها الحقيقي ورسالتها الفنية السامية المشبعة بالثقافة، وحولوها إلى مجرد ملجأ.. أي لاعب على ساحة الصراع. في حين كان بوسعها أن تكون النموذج-النقيض الذي يصوِّب أبصارهم نحو الضفة المقابلة.
طال الموت السريري لسنوات. وكان مؤملاً أن تنهض السينما من سباتها بعد انتهاء الحرب لكن اتضح أن جروجها كانت بالغة، فنازعت لعامٍ أو عامين. عُرِض خلالها حفل لزين شعيب هو آخر ماجادت به (وهو الأرشيف الوحيد الذي وجِد عن هذه السينما، بعد عناءٍ وبحث طويلين).. ثم أقفلت أبوابها نهائياً.
لم ينته الأمر عند هذا الحد، فالسينما التي ظلمها الواقع، لم تنصفها الذاكرة. حتى القلة الذين تذكروها عدّوها معلماً من معالم الحرب لا صرحاً للفن والثقافة.
كأجدادنا الذين اعتادوا البكاء على الأطلال. نقف أمام آرمة صغيرة باهتة الحروف كانت يوماً تشع مرحبة بزوار سينما هيلتون. ونجول مطأطئي الرأس في محل لبيع المبرِّدات ينشط في المكان نفسه، ويعترينا السكون والرهبة في القاعة المظلمة التي استحالت مستودعا للإطارات.
لم نبكِ كأجدادنا الأوائل، لكننا تصدينا للتعريف بالميت عسانا نظفر بمن يقوم بهذه المهمة، عسانا نقيم عزاءً مؤجلاً يليق بسينما هيلتون.
عزاءً مؤجلاً.. للذاكرة.