جنين وزواريب الشّتات
نهار الجمعة في العشرين من يناير/ كانونَ الأول، استهلّت سينما "المُلتقى الجوالة" عروضها في المُخيّم، بالشراكة مع مؤسسة جفرا، إذ عُرض الفيلم الوثائقي الفلسطيني "جنين جنين" في حارة ضيقة، يُطلق عليها شبابها اسم حارة الضبع.
عند دخولي للمرّة الأولى، بحثاً عن هذه الحارة في مخيم برج البراجنة (المخيم الأكثر كثافةً وتهميشاً، والواقع على أطراف ضاحية بيروت الجنوبية) لم أستطع أن أجد السبيل إليها بهذه السهولة. فبين السؤال والآخر عنها تكثُر دعابات أهل المخيّم حول اسمها، فمنهم من سمع بها للمرة الأولى وضحِك، ومنهم من برّر عدم معرفته بكبر المخيم وامتداده. وقد كثرت الأسماء للحارات والأحياء، إما نسبةً لمدنهم الفلسطينية، أو نسبةً لحركات المقاومة، وآخر من ابتعد عن التسميات الموجودة، وسمّاها حارة الضّبع.
لم تكُن حارة الضبع اسماً على مسمّى، لا هي حارة أصلا ولا فيها ضبع أيضا، قد تكون في إحدى المدن الكبيرة زاروباً يتسع ممراً لشخصين أو ثلاثة فقط، لكن أهل هذه البقعة، سموها حارة الضبع تيمناً بمسلسل باب الحارة، وما قدمته هذه الحارة من بطولات ومواقِف مشرِّفة ضد المنتدب الفرنسي، ولهم ما أرادوا.
شيء ما بقي خالداً في عقول وقلوب من حضروا الفيلم، ألا وهو حب فلسطين وانتظار العودة إليها
ما إن غابت الشمس، حتى علا صوت الأذان داخل المخيم، وحين أقبل الظلام جهزنا أنفسنا نحن و"جفرا" للعرض، بعد تحضير مسبق للصوت والصورة، بما يسمح لنا بالبدء في وقتنا المحدّد..
الساعة الخامسة بتوقيت المخيم تخرج الأضواء من فوهة آلة العرض مصحوبةً بموسيقى مقدمة الفيلم لتعلن البداية.
الفيلم للمخرج الفلسطيني محمد بكري، وهو مادةٌ توثيقية للأحداث التي وقعت في مخيم جنّين للاجئين الفلسطينيين في 2002 بعد مجزرة قام بها الجيش الإسرائيلي عند اجتياحه للمخيّم. كما منعت المحكمة الإسرائيلية عرض الفيلم وأمرت بإتلافه وإخضاع المخرج مرّات عديدة للمحاكمة على تصويره الواقع الفلسطيني وممارسات الاحتلال وتوثيقها.
اختلفت أعمار الحاضرين بين صغير وكبير، وقد امتلأت الكراسي التي رُصفت بشكل طولي إلى الخلف لتناسب مساحة هذا الزاروب الضيق، وخرجت رؤوس من وجد نافذته تطلّ على الشاشة، وأحضر الأطفال مشترياتهم لتسليتهم وقت العرض، وكان مما يُلفِتُ الانتباه وجود بعض كبار السّن والعجزة، وقد أخذ الفيلم عقولهم واندمجوا معه حتى أخذوا يسبون الصهاينة بعبارات مثل "الله ياخدك يا إسرائيل"، وكنّا نلاحظ سيدة تمسَح دموعها بمنديلها... وما إن ظهر مشهد لفلسطيني يتحدّى ويهدّد إسرائيل حتى بدؤوا بالتصفيق بحرارة وصفير وهتاف بأعلى أصواتهم لفلسطين، وكأنّ الفيلم قد تحوّل إلى خطاب جماهيري لأبي عمّار، ومن منّا لم يشاهد خطاباً له تميّز بالطابع الكاريزماتي والتشويق الجماهيري؟
لم يبق الفيلم طويلاً، فقد أُعلن انتهاؤه سريعاً مع شاشة سوداء تتوّسطها عبارة "النهاية"، لكنّ شيئاً ما بقي خالداً في عقول وقلوب من حضروه، ألا وهو حب فلسطين وانتظار العودة إليها. لم يكن الفيلم من أيقظ هذه القضية، فهي حاضرة فيهم، لكنّه أظهَر مشاعِر أهلها الحقيقية، على أمل أن يكون زوال الاحتلال سريعاً كنهاية الفيلم، لتكون نهايته (الاحتلال) بداية لزمان جديد يصوّره جيل جديد على أرضه المغتصبة...
شكرا لفاطمة والملتقى ومؤسسة جفرا.