سعد الله ونوس والنقطة الأخيرة
"وهناك أشياء كثيرة كان يمكن أن يتحدث عنها المرء"
قد نظن للوهلة الأولى أنه سطرٌ من ملخص فيلمٍ أو جملة من نصّ، لكنه عنوانٌ لفيلمٍ لم يختره أميرلاي عن عبث، ففيه افتتح فيلمه وعلى لسان سعد الله ونّوس أنهاه. عنوانٌ يلخص الحكاية من الأساس حيث إنّ هناك الكثير لم يحكى بعد، ولن يحكى حتى، لأسبابٍ ليست مجهولة..
بين مدخل المستشفى وغرف المرضى تتنقل كاميرا أميرلاي لتبصر مقدمة الفيلم نورها ومعها أصوات أجهزة وآلات القلب والأوكسيجين كتعريف عام عن المكان، وتبدأ بالاستقرار تدريجياً حول رجلٍ شاحب العينين أبيض الوجه، كثير الظلال بخلفية سوداء، أصلع الرأس تساقط شعره استسلاماً للمرض.
يستهل مقابلته وبنبرة يعلوها القهر والحزن: "سأكون صريحاً، أنا بمزاج جنائزي اليوم.."، وباللغة العربية الفصحى يكمل مقابلته، ليضيف إليها العمق والقوة في اختيار كلماته.. وكيف لا وهو الكاتب والمخرج المسرحي السوري سعد الله ونّوس. الذي نخره سرطانان، سرطان داخلي وهو المرض، وسرطان آخر خارجي وهو إسرائيل والذي نتشاركه فيه، لعلنا يوماً ما نشفى منه..
لم يكن سعد الله متفائلاً أبداً تجاه الشفاء، فالخيانة كانت أمراً واقعاً أولها عندما خانه جسده وآخرها عندما انخانت القضية فكان الإحباط والتشاؤم سيدي الموقف.
يأتي هذا الفيلم بعد سلسلة أفلام وثائقية لا تخلو من النقد والتبطين السياسي صنعها عمر أميرلاي، بين فيلم "الدجاج" وفيلم "الحياة اليومية في قرية سورية" الذي كتبه مع سعد الله ونّوس وغيرها من أفلام سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي، ليترك بصمة في مسار السينما، لكي تكون مرجعاً سياسياً واجتماعياً نعود إليها لفهم التاريخ.
هذا الفيلم لخص الحالة المأساوية لتاريخنا العربي المليء بالخيبة والهزائم على لسان ونّوس وبعين أميرلاي، منذ النكبة وخسارة فلسطين حتى حرب الخليج في التسعينيات، والسكين التي هي في خاصرة العالم العربي إسرائيل، تتوسع وتكبر وتصبح حقيقة تاريخية في المنطقة، منذ صناعة الفيلم في 1997 حتى الآن لم تتوقف خيباتنا، بل تزيد وتزيد وكأنها هي الأشياء الكثيرة التي كان يمكن أن يتحدث عنها المرء.
يتبنى أميرلاي بالفيلم إيقاعًا بطيئاً يتناسب مع حديث ونّوس الهادئ الذي يصاحبه الصمت بين الجملة والأخرى، لأخذ مسارٍ زمنيٍّ متناسق مع الأحداث التي يرويها
يتبنى أميرلاي بالفيلم إيقاعًا بطيئاً يتناسب مع حديث ونّوس الهادئ الذي يصاحبه الصمت بين الجملة والأخرى، لأخذ مسارٍ زمنيٍّ متناسق مع الأحداث التي يرويها، حيث تقسم نقطة من أنبوب المصل بين الزمن والآخر بشكل تدريجي، تتوسطها صورة من الأرشيف تتساقط معها نحو الهاوية لتختفي، ويصاحبها صوت سقوط النقاط.
يبدأ هذا المسار بأولى القضايا وهي النكبة والصراع العربي الإسرائيلي الذي افتتح فيه سؤاله أميرلاي، وبعده هزيمة ال 67 وتنحي عبد الناصر، ثم نصر تشرين وأولى مراحل التطبيع في كامب ديفيد حتى حرب الخليج الثانية في التسعينيات، لتنتهي آخر نقطة تتساقط من المصل فارغة من أي صورة داخلها، بل سواداً ينتهي فيه الفيلم مع مقولة ونّوس التي أخذت كعنوانٍ للفيلم.
يسيطر ونوّس على غالبية لقطات الفيلم والتي هي بالأسود والأبيض يمر من خلالها بعض من الأرشيف الملون إن كان عن النكبة عند حديثه عنها أو عن التطبيع بظهور السادات، وبعض من مشاهد المستشفى وغرف المرضى وغيرها، ومن قوة الفيلم هو اختيار أميرلاي للقليل من هذه اللقطات من دون أن يضعفه، بل العكس كان فيلماً منفرداً وضع ثقله على فحوى كلام ونّوس، وذلك يعكس تمسك أميرلاي فيه وبظهوره الذي يتأرجح على حافة الموت بسبب المرض والاستفادة من آخر لحظات وجوده المؤقت.
يلاحق الصورة أصواتاً تتناسق معها كأصوات التنقيط والأرشيف، وأصوات من الجو العام في المستشفى وطبعاً صوت ونوس الذي يتحدث أمام الكاميرا كراوٍ يتحكم بمسار وأحداث الفيلم، ويظهر صوت أميرلاي بين الحين والآخر ليضيف سؤالاً فجائياً يتأرجح فيه إيقاع الفيلم وكأنه يطلق عليه رصاصة تهمده أكثر وأكثر، ومن أهمها عند سؤاله بأنه يبدو أننا سنموت وفينا العلة التي اسمها إسرائيل، وكان جواب ونّوس بـ "أوف أوف" التي تحمل بطياتها الكثير من الحزن والأسى على مستقبل الأجيال القادمة والتي سيكون مصيرها كمصير جيله..
ولا أعتقد أن هذا السؤال قد طرحه عمر أميرلاي على سعد الله ونّوس وحدَهُ، بل لنا جميعاً..