رسالة من ميلاد وليد دقة
بين حاجزين كبيرين، كالأسرِ والحريّة، كالسجنِ والكون، كالزنزانة الضيّقة والعالم الواسع، يهرُب من السجين بعضُه أحياناً، رسالة، أو كتاب، أو صوت، أو رسالة ماجستير، لكن في أحايين نادرة، قد تهرب منه "نطفةٌ" إلى الحياة، متحدّيةً كلّ تلك الحواجز الهائلة والأسوار الضاربة بين عمقِ الأرض وامتدادِ السماء، وهكذا تحديداً كان ميلاد "ميلاد" وليد دقة؛ وذلك ليس توكيداً لفظيّاً ولا حيلةً مجازية، وإنّما توكيد معنويّ في المعجم الفلسطينيّ لحياةٍ غير تلك الحياة، وميلاد من رحمِ الموتِ المؤجّل، وما دام مؤجّلاً، فلنرسل برغم أنفه حياةً مؤجّلة أيضاً.
عبر نطفةٍ مهرّبة (محرّرة) من الأسير الشهيد وليد دقة من سجونِ الاحتلالِ الإسرائيلية عام 2020، وُلدت ميلاد وليد دقة. وما كلّ هذه الولادة في جملة واحدة؟ أخبرتك منذ البداية أنّه المعجم الفلسطينيّ الفريد، وعليك تحمّله حتى النهاية، ثم في النهاية لن تتحمّل استخدام غيره، ستشعر بكلمات الدنيا كلّها باهتةً في قاموس عقلك الطبيعيّ ومفرداتك اليومية، وأنّ ثمّة حقيقة جديدة تتكشّف للمرء، حقيقة تقول بأنْ لا حروف إلّا في فلسطين، ولا أبجدية إلّا التي يكتبُها الفلسطينيون.
أبٌ في التاسعة والخمسين من عمره حينها، وأمٌّ مضى من عمرها نحو ثلاثين عاماً في انتظار حبيبها الأبدي، المحكوم بالمؤبّد، يُرزقان بعد قرابةِ ربعِ قرنٍ من الزواج بطفلةٍ تصغرهما بكثيرٍ للغاية، أكثر بكثير مما يصغر الأطفال آباءهم عادةً، لتكون إعادة للحياة من جديد، وأجمل تهريب يقوم به وليد في حياته، تهريب للمستقبل، كما أحبَّ الشهيدُ أن يصفه.
أنا ميلاد، التي عمرها أكبر من عمر قاتل والدها، ميلاد المستقبل
وهذه أنا ميلاد، الطفلة التي في الثالثة من عمرها، وأبوها الأسير الذي في الثانية والستين من عمره، كأنّني شعرةٌ واحدة حرّةٌ في صدره وسطَ جسدٍ كامل مكبّل مدمّى، كأنّني نبضة واحدة حرّةٌ في قلبه وسطَ صدرٍ كاملٍ مُتعَب منهك، كأنّني زفرةٌ واحدة حرّة في أنفاسه وسطَ رئةٍ مريضة متآكلة مهترئة بالسرطان، كأنّني وليدةٌ وحيدة حرّة في وليدٍ كاملٍ، حرّ الأفكار والمشاعر والكلمات، لكنّ يديه مكبّلتان بالأصفاد منذ حاول ذات يومٍ أن يقضّ مضاجع إسرائيل، وعلى ما يبدو أوجعها حتى خشيت أن تفلته ولو كان عاجزًا عن النشاط بفعل مرضه وإهماله طبيّاً، وإن بقيت له أشهر قليلة في عمره.
أنا ميلاد، التي عمرها أكبر من عمرِ قاتل والدها، ميلاد المستقبل، ستفنى إسرائيل وأبقى صبيّة عصية على الهرم والكهولة، سيموت ذلك الكيان المترهّل، ويفنى ذكره ووجوده، ويبقى ذكر وليد دقة، مسبوقاً بميلاده التي لم يرها، وكان مستعداً لدفع ما تبقى من عمره الفاني ثمناً لعناقٍ واحدٍ بين يديها الصغيرتين، سيبقى اسمي يذكرهم حتى يغادروا، بأنّ وليد ميلادٌ متجدّد، لا رحيل وانتهى أمره.
المشهد الأخير يا حبيبي كان لك، أنت انتصرت بميلاد، وهم لم يحصدوا إلا جثمانك الطاهر
لا أعرف ماذا سأحكي لصديقاتي، كيف سأروي حكاية أبي الذي غادر في عقده السبعين من عمره، وأنا قد فُطمت من الرضاع قبيل أشهر فقط، كيف سأفهمهم تلك القصة العصيّة على الاستيعاب، كيف سأعيش ذلك الوجع كلّه في جسدي الضئيل، كيف سأمضي عمراً كاملاً أراقب طيفك، وأبكي ذكراك، ويؤلمني ميلادي الذي كان ميلادك ووفاتك معاً، كان عبئاً إضافياً في شوقك الذي لا يفتر، كان اختباراً جديداً على جسمٍ لا يتحمّل المزيد من اختبارات الفقد والفراق والاشتياق والحضن السليب، كيف سأمضي يا أبي سنوات عمري الطويلة الباقية من دونك، رغم أنّك لو بقيتَ فكانت ستبقى من دونك أيضاً.
ولكن، ستعانقك الأرض التي لطالما عانقتها بدموعك، سيحضنك تراب فلسطين ويبكيك ماءً ينبع من جوفه، سيرثيك الثرى إلى الثريّا، وسأرث أنا ثأرك، وأكبر ذات يوم لأوجعهم كما أوجعوك أربعين عاماً بسوارين من نارٍ في معصميك، وبغصّة من بارودٍ مختنق في حلقك، وبيأسٍ حاولوا به إزهاق أملك، وبانعدامِ حياةٍ حاولوا به حصار الحياة، لكن المشهد الأخير يا حبيبي كان لك، أنت انتصرت بميلاد، وهم لم يحصدوا إلّا جثمانك الطاهر، أمّا روحك فها هي تحلّق في سماء المخيّم والحيّ، فوق الأبطال وبين الكتائب، تشدّ على أيدي الألوية المجاهدة، تخبرهم بأنك ستمهّد خبر النصر للرفاق الذين سبقوا، ستذهب إلى هناك لتحكي الرواية، لأنّك لم تعدْ تتحمّل أن تكتفي بالمشاهدة.
رحلتَ يا حبيبي، يا وليد، يا عزّ الرجال، ويا أبا النضال، ويا عميد الكفاح الحرّ، ويا صاحب القلم والقلب، والفكر والفكرة، والكتاب والديوان والرسالة، وبقيتُ أنا، امتداداً حرّاً غير مكبّل في الخارج، في فضاء فلسطين، أحكي لها عنك وأحكي لروحك عنها، وألعنُ "سلسفيل" إسرائيل!