حرقوها يوم حرقونا
متى بدأ حريق غزة؟ متى دُشّنت محرقتها؟ من أشعل عود الثقاب الأوّل؟ من جهّز النيران والفحم؟ من صبّ الزيت على النار؟ من نفخ في الجمرة لتمتدّ إلى الجذوة؟ من جهّز الحطب بين حجارتين؟ من ألهم السفاح ما صارت هوايته المفضّلة؟ من دلَّه على التلذّذ برائحة شواء البشر؟
أعود بذاكرتي (وهي مقيمة هناك لا تغادر) إلى ما قبل 12 عامًا في مصر، وكنت يومها ضحيّةً وشاهدًا، أسعل من قسوة الدخان المتصاعد إلى صدري وعيني، وأكاد أتقيّأ من رائحة الجثامين المتسلّلة إلى رئتيّ، وأنا لا أصدّق ما حولي، تلك النيران التي تلتهم الجثث حيّة، وهي تأكل في الخيام تلو الخيام، والبلاستيك المحترق يلتصق بمن داخله ليزيدَ الألم المستحيل آلامًا، والناس يصرخون، والأصوات تختنق في الأعناق المنصهرة، والصرخات ترج المكان والكيان، والعقل أصغر بكثير، أكثر ضآلة من أن يستوعب الحدث، وأن يبتلع الصورة، من ذا الذي يحرقني؟ ما هو ذلك الجيش؟ من هؤلاء المسلحون؟ ومن الذي يحترق؟
لم أكن أتخيّل أنّ تلك المأساة المروّعة ستمضي، أنّ تلك المحرقة ستمرّ لتصير الأمور بعدها عاديةً، وينام الناس ويصحون كأنّ شيئًا لم يكن، تلك المذبحة الشنيعة على الهواء، والناس ينزفون لحومهم حيّةً، تتساقط من لهيب النيران، سيصلَّى عليهم كأنهم توفوا على أسرّتهم بينما يواصل الجميع المشاهدة، ويواصل العالم ضروراته السياسية حتى تستتب الأمور ويعم الاستقرار، ولا بأس بالضحايا، فليحترقوا، والعجيب أنّهم احترقوا فعلًا، وتلك هي المسألة.
يشعل الاحتلال النيران في غزّة، ويتبشَّع في تنفيذ إبادته دون أن يبالي بتعليقٍ أو إدانةٍ أو شجب، لأنّ أحدًا من الجوار المخزي لن يطفئ نيران غزّة
ثم في سورية، وقبلها بغداد، كان البشر يحترقون على الهواء مباشرةً في البثِّ المباشر، بالصواريخ الأميركية تارةً، وبالبراميل النظاميّة المتفجرة تارةً، ليحترق الرضّع والجميع يشاهد، وأنظمة أخرى تتفنّن بحرق قلوب شعوبها، حتى يضطر شبّانهم إلى حرق أنفسهم، وهي التي كوت عيونهم بالحديد والنار، وأغلقت عليهم الأبواب فتفحّموا داخل زنازينهم الانفرادية، وحكمت عليهم بالإعدام فلم تبقَ منهم ذرّة، وحولت أحلام الحالمين إلى رمادٍ، ينفخ فيه الحاكم بأمره، الملك، الزعيم، الرئيس، القائد، الخالد، فتتطاير كأنّ لم يكن شيئًا مذكورا!
و"إسرائيل" تمسك دفترها بعناية، تلتقط الصورة، ترسمها جيّدًا، تحاكيها، تجرّبها، يا له من محيط مجرم ملهم! تلك المذابح بهذا اللون الأسود لم أجرّبها من قبل، ما ألذَّ أن ترى ضحيّتك متفحمة ولم يتبقَّ منها شيء يدل على الجريمة، تفصيلةً تفصيلةً، سوى أنّها احترقت بالكامل، تبخرت فلم يبقَ جلدٌ على لحم، كما لم تصبر العظام! يا لها من طريقةٍ مفضّلة لارتكاب الجريمة، ولعرضها، ولإخفائها ضمنيًا، كلُّ شيٍء في عود الثقاب ذاك؟ يا له من اختراعٍ شيطاني مذهل!
المحرقة الشنيعة المروّعة في غزّة هي امتداد لأعواد الثقاب الأولى التي أشعلها عمّال الشواء بأفران "إسرائيل"، في بلادنا أولًا
لم يكلّف الجيش الإسرائيلي نفسه بإشعال عود ثقاب جديد، وإنّما، فقط، مدّ يده إلى أيّ جوار من بلاد الجور حول غزة، واقتبس من نيرانها نارًا، وأشعل من جحيمها جهنم، وألقى بغزّة في سقر التي صنعها يضاهي بها نار الآخرة، والجميع حوله مشغول بمحرقته، يخشى أن ينطفئ الوميض فتنتهي السهرة وتفنى السكرة وتحضر الفكرة، فيحرص على أن تبقى مُشتعلةً أمام عرشه، تدفئ أقدامه المثبّتة في الحكم أكثر، لأنّ أيّ ارتعاشةٍ في القدمين قد يحسبها الحالمون خوفًا، وحاشاه (طال عمره) أن يخاف!
يشعل الاحتلال النيران في غزة، ويتبشَّع في تنفيذ إبادته، ويتعمّد "تفحيم" القضية وتحريق حمَلتها، ويكوي أهلها أحياءً على الهواء دون أن يبالي بتعليقٍ أو إدانةٍ أو شجب، لأنّ أحدًا من الجوار المخزي لن يطفئ نيران غزة، وهو لا يملك إلا النيران أيضًا، وإنّما مصلحته أن تظلّ مشتعلة، حتى إذا أوشك جمره على الانطفاء أعاد إشعاله من تلك المشتعلة في وسط القطاع المحاصر، كأنّه يستعير جذوة من جاره في معسكر التخييم لا أكثر.
والحقيقة أنّ المحرقة الشنيعة المروّعة في غزّة هي امتداد لأعواد الثقاب الأولى التي أشعلها عمّال الشواء بأفران "إسرائيل"، في بلادنا أولًا، كنّا نحن التجربة، الفحم البكر، ثم كانت غزة، تمام المحرقة.