دققنا جدران الضمائر ولا من مجيب
ماذا تنتظر من "آباء الخيزران" (أبو الخيزران إحدى شخصيات رواية "رجال في الشمس" لغسان كنفاني) الذين "بوسعهم أن يُقوّسوا أنفسهم، فيضعون رؤوسهم بين أقدامهم، دون أن يسبّب ذلك أي إزعاج لأعمدتهم الفقرية أو لبقية عظامهم"؟ ماذا تنتظر ممن يؤمنون بأنّ "القرش يأتي أولا، ثم الأخلاق"، لا ينكرون جشعهم ويعلنونها حقيقة "إننا نريد مزيدا من النقود.. مزيدا من النقود.. مزيدا من النقود؟".
سيكتب التاريخ أنّنا دققنا جدران الضمائر، وأنّ الآذان لم تكن صمّاء، لكنها من عجين وطين، وأنّ العيون لم تكن عمياء، لكن غشاها الخضوع والخنوع.
نعم، قرعنا خزّانات "الخيزرانيين" الصدئة، نستجدي ما تبقى لهم من ماء وجه، ومن شيم العرب الأولى، فلا صرير بلغَنا ولا قعقعة أسمعت لو ناديت حيّا، ولو نار نفخت بها أضاءت، فَصلوا عن أنفسهم صمّامات الإنسانية، وأحكموا إغلاق مهبّات النخوة والغيرة، ووقفوا كالنعامة لا طير ولا جمل، حتى صرنا في نظر العالم، فعلًا، مجهولي الهوية، مشاعًا لكلّ من هبّ وتعلّم الدبيب بالأمس القريب، مكبّ نفايات، مقابر مفتوحة، جثثًا على "آباء الخيزران" التخلّص منها بهدوء وبأدنى جهد وخسائر، بعد استنزافها بالكامل.
سيكتب التاريخ أنّ الشعوب قاومت الموت داخل خزانات "آباء الخيزران" المهزومين المهزوزين، وأطلقت صرخات مشروعة تطالب بحبّة شجاعة مع جرعة نخوة، تُؤخذ ببطولة دفعة واحدة، ولو لمرّة في العمر، تبعث المشهد العربي من جديد، وتمسح عن وجوه "الخيزرانيين" آثار البصق الخارجي والإهانات الأممية، لكنهم أبوا إلا أن يحوّلونا لأوطان مخصية الكرامة في عالم مخصي الإنسانية، فبؤساً لتاج على رأس خانع ذليل، ونعم لقيد في ساعد حرّ أبيّ.
فَصلوا عن أنفسهم صمّامات الإنسانية، وأحكموا إغلاق مهبّات النخوة والغيرة، ووقفوا كالنعامة لا طير ولا جمل
سيكتب التاريخ أنّ "الخيزرانيين"، كعادتهم، هناك في كهفهم السحيق، يغشّون حتى في ثيابهم، يبدعون في صناعة الصمت والتغافل. وإذا خرجوا من مخابئهم لا يجدون حرجاً في كشف عوراتهم على المنابر، وأمام الكاميرات، يتمخضون بانفعالات كاذبة وصيحات ذبيحة، ويختمون مشاهد التأسي والتباكي ببيانات وقرارات مثيرة للاشمئزاز، وصوراً جماعية تسدل ستار العرض الذي تمّ بنجاح.
سيكتب التاريخ أنّ الشعوب قرعت جدران خزان ما تبقى من الكرامة، وانتفضت ضد الزيادة التي تقرّرت هذه السنة في معدل الضريبة عليها، وعلى التذكير بعقوبة القرع والتشديد عليها، وعلى سعر الضريبة على القيمة المضافة المطبّقة على معدلات قيم الإنسانية لدى الفرد، وسيسجل أيضًا أنّ الجماهير اهتزت للتدابير الجبائية التي اتخذها "آباء الخيزران" لتطهير ما تبقى من سيالات الإحساس والشعور لديهم، وتقنين معدل نبضات الضمير وضبطه.
مومس عاشرت مخصيّا فهلك الرجال تحت الشمس، هكذا هي القصة.. تأتي الهزيمة من مومس ومخصيّ، وترمى جثث الرجال في مزبلة على قارعة الطريق.