أن تسمع بالمعيدي خير من أن تراه
مثل يضرب فيمن خبره وصيته خير من مرآه و هيئته، وصاحب المثل ضمرة بن شقة من فتاك العرب وشجعانهم، كان يغير على حمى الملك النعمان بن المنذر حتى أعياه ولم يجد له قدرة ولا قوة، فلما رآه النعمان سأله: فكتب إليه النعمان أن ادخل في طاعتي ولك مائة من الإبل، فقبلها ضمرة وأتاه، من أنت؟ -وكان قصيرا ذميما تزدريه العين- قال: ضمرة، فقال النعمان: تسمع بالمعيدي خير من أن تراه!
فرد عليه ضمرة غاضبا: إن الرجال لا تكال بالقفزان وليست بمسوك يستسقى فيها، وإنما المرء بأصغريه: قلبه ولسانه، إن قاتل قاتل بجنان وإن نطق نطق ببيان.
فقال النعمان: والله إنك لصدقت وبحق سودك قومك، وسأله عن رأيه في بعض الأمور من بينها الفقر الحاضر والداء العياء، فقال المعيدي وأما الفقر الحاضر فأن تكون نفس الرجل لا تشبع ولو كان من ذهب حلسه وأما الداء العياء فجار السوء الذي إن كلمته بهتك، وإن قاولته شتمك، وإن غبت عنه سبعك، فإذا كان جارك فخل له دارك، وعجل منه فرارك، وإن رضيت بالدار فكن كالكلب الهرار، وأقر له بالذل والصغار.. فأعجب النعمان بحكمته وفصاحته وجعله من مقربيه وحداثه.
يحتاج مجتمعنا إلى قيم الدين الحقيقية، لا إلى مظاهر تدين مضعضعة تذروها رياح الأهواء وعقلية الغنيمة
هذا المعيدي! فماذا عمن لا خبر و لا مظهر لهم؟ استفاقوا يوما وبالصدفة وجدوا أنفسهم سياسيين، كيف تمارس هذه السياسة ومن أين تؤتى؟ لا يهم، انقضوا على تجربة اللعب بها ولم يزيلوا الرمص عن أعينهم بعد.
فما كان إلا أن أفقروا البلاد ودمروا نفسية العباد، تدنٍ في تدنٍ على جميع مستويات من المعيشة، التنمية، القطاعات الحيوية إلى تذيل قوائم المؤشرات والتصنيفات العالمية مقابل ارتفاع المديونية الخارجية، الأسعار والاقتطاعات وضغط دم المواطن، انتظر الناس نصرهم فجاؤوهم بالخذلان، لا منجزات ولا عدالة و لا حتى طردوا العفاريت، استقووا فقط على الضعفاء الذين يدفعون اليوم ثمن تعاطفهم، تعاطف بات مؤكدا أنه من النوع المرضي الذي ينقلب سلبا على أصحابه.
حصنوا فقط أنفسهم وأرصدتهم وامتصوا دماء الناس، منابع تعويضاتهم متعددة ودائمة التدفق، لكن حينما يتعلق الأمر بالمواطن تتقطع وتجف، امتيازاتهم خط أحمر يستميتون في الدفاع عنها بكل صفاقة وأجرة الموظف كثوب مهترئ تنسل خيوطه من أطرافه يوما بعد يوم.
يحتاج مجتمعنا إلى قيم الدين الحقيقية، لا إلى مظاهر تدين مضعضعة تذروها رياح الأهواء وعقلية الغنيمة، أين الورع والعدل وحرمة المال العام الذي يؤكل اليوم جهارا؟ قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "إني أنزلت نفسي من مال الله منزلة مال اليتيم، إن استغنيت منها استعففت، وإن افتقرت أكلت بالمعروف"، لم نعاين سوى المزاعم والوهي في أحاديثهم عن الاقتداء بالسلف، ولا مبادرة عملية في الاحتذاء بمن كانوا يأخذون أجورهم من بيت مال المسلمين بالمعروف؛ راتب ما يفتأ يسد حاجياتهم كغيرهم من العامة.
فإلى من يدعون مصلحة الوطن بالاستماتة من أجل منح أنفسهم رواتب تقاعدية مدى الحياة على حساب إخوانهم فقراء وضعفاء الوطن؟ فاعلموا وأنتم تعلمون أن تمثيلية الشعب ورعاية مصالحه تكليف مؤقت ينتهي بنهاية المهمة ليعود بديهيا كل إلى حياته السابقة، فيستأنف من حيث توقف وتكفيه مكافأة نهاية الخدمة وما استفاده طوال فترة مهمته التطوعية في الأصل، كشأن الدول التي تحترم صورتها وتحترم مواطنيها، وغير هذا فخيانة وما أعظمها من خيانة.