في مدح المعلّمين وذكر فضائلهم... إلى من يهمه الأمر

01 ابريل 2020
+ الخط -
كتب الجاحظ رسالة طويلة عن فضائل المعلمين، نفهم من مقدمتها أنها رد على دعوى جاهل لم يسمه، تطاول على هذه الفئة وأوصل بها كل علة وبلية، وجاهل الجاحظ كبعض جهلة حاضرنا الذين لا يخلو منهم زمان ولا مكان، والذين سنجيبهم كما أجاب أبو عثمان دعيه الأحمق، فاسد العقل والهوى كما نعته في مقدمة الخطاب وعزاه في اعتلال موازينه العقلية والأخلاقية:


"أعانك الله على سورة الغضب وعصمك من سرف الهوى وصرف ما أعارك من القوة إلى حب الإنصاف ورجح في قلبك إيثار الأناة، فقد استعملت في المعلمين نوك السفهاء وخطل الجهلاء ومفاحشة الأبذياء ومجانبة سبل الحكماء وتهكم المقتدرين وأمن المغترين، ومن تعرض للعداوة وجدها حاضرة، ولا حاجة بك إلى تكلف ما كفيت".

ثم انتقل الجاحظ إلى الامتنان لمعروف المعلمين عبر التاريخ: "فلولا الكتاب لاختلت أخبار الماضين وانقطعت آثار الغائبين (...) والملك المقيم بالواسطة لا يدرك مصالح أطرافه وسد ثغوره وتقويم سكان مملكته إلا بالكتاب (...) ولولا الكتاب ما تم تدبير ولا استقامت الأمور".


يواصل الجاحظ تقريع جاهله وجهلاء اليوم جملة واحدة: "وليس علينا لأحد في ذلك المنة بعد الله الذي اخترع ذلك لنا ودلنا عليه، وأخذ بنواصينا إليه، ما للمعلمين الذين سخرهم لنا، ووصل حاجتهم على ما في أيدينا. وهؤلاء هم الذين هجوتهم وشكوتهم وحاججتهم وفحشت عليهم، وألزمت الأكابر ذنب الأصاغر، وحكمت على المجتهدين بتفريط المقصرين، ورثيت لآباء الصبيان من إبطاء المعلمين عن تحذيقهم، ولم ترث للمعلمين من إبطاء الصبيان عما يراد بهم، وبعدهم عن صرف القلوب لما يحفظونه ويدرسونه، والمعلمون أشقى بالصبيان من رعاة الضأن ورواض المهارة. ولو نظرت من جهة النظر علمت أن النعمة فيهم عظيمة سابغة والشكر عليها لازم واجب".

مع ملاحظة أن شقاء معلمي القرن الثالث الهجري مع صبيانهم أهون بكثير من شقاء معلمي اليوم، فأين نحن من تعظيم مكانة المعلم والإقبال النهم على التعلم والحض على العلم وتعمير بيوته وازدحام حلقات التدريس..

ومن سماجة القول إنكار أيادي المعلم على مجتمعه، فهو باني المستقبل وصانع الإنسانية، المهذب ومستنهض الهمم ولا تقوم الأمم دون تعظيمه وتوقيره وتبويئه المنزلة اللائقة به كما فعل أسلافنا حتى كانوا قبلة الدنيا ونورها، تهرول إليها أوروبا وبقية الأصقاع كي تبدد ظلامها وجهلها، لكن لا يعرف فضل أهل العلم إلا أهل الفضل كما قال الإمام علي بن أبي طالب كرم الله وجهه..

وفي ذلك يقول الجاحظ: "وأنت، حفظك الله، لو استقصيت عدد النحويين والعروضيين والفرضيين والحساب والخطاطين، لوجدت أكثرهم مؤدب كبار ومعلم صغار، فكم تظن أنا وجدنا منهم، من الرواة والقضاة والحكماء والولاة من المناكير والدهاة، ومن الحماة والكفاة، ومن القادة والذاذة، ومن الرؤساء والسادة، ومن كبار الكتاب والشعراء والوزراء والأدباء ومن أصحاب الرسائل والخطابة والمذكورين بجميع أصناف البلاغة، ومن الفرسان وأصحاب الطعان، ومن نديم كريم، وعالم حكيم، ومن مليح ظريف، ومن شاب عفيف. ولا تعجل بالقضية حتى تستوفي آخر الكتاب وتبلغ أقصى العذر، فإنك إن تعمدت تذممت، وإن كنت جهلت تعلمت، وما أظن من أحسن بك الظن إلا وقد خالف الحزم".

ويواصل الجاحظ الحديث عن الحاجة للمعلمين مع التمثيل وإقامة الحجة ويستعرض بعض طرائقهم في التلقين بأسلوب حسن المعنى بالغ المغزى دفاعاً عن المعلم وصوناً لكرامته التي هي من كرامة العامة..
ونختم بقصة اللغوي الكبير أبو زكريا الفراء الذي اتخذه الخليفة المأمون معلم نحو لولديه، وفي يوم أراد الفراء أن يقوم من مجلسه إلى بعض حوائجه فتسابق الأميران إلى نعل الفراء يقدمانه له، فتنازعا أيهما يقدمه ثم اصطلحا على أن يقدم كل واحد منهما فرداً إلى معلمه فقدماها.. رفع الخبر إلى المأمون فاستدعاه، و لما دخل عليه قال له: يا فراء من أعز الناس؟ قال: ما أعرف أحداً أعز من أمير المؤمنين..

قال: بلى، إن أعز الناس من إذا نهض من مجلسه تقاتل وليا عهد المسلمين على تقديم نعليه حتى رضي كل منهما أن يقدم له فرداً. فظن الفراء أن ذلك أغضب الخليفة فاعتذر بأنه حاول منعهما فأبيا..

فقال المأمون: لو منعتهما عن ذلك لأوجعتك لوماً وعتباً وألزمتك ذنباً وما وضع ما فعلاه من شرفهما بل رفع من قدرهما وبين جوهرهما فليس يكبر الرجل وإن كان كبيراً عن ثلاث: عن تواضعه لسلطانه، ووالده، ومعلمه العلم.