حمّى التخصصات في بعض الجماعات الإسلامية
تشكل الجماعات والأطر الإسلامية بيئة حاضنة للشباب بالغة الأهمية، وخاصة تلك الأطر التي تحمل أبعادًا حركية، ومؤسساتٍ فاعلة، تستوعب طاقاتها، وتسهم في تطوير شخصيات العاملين فيها، وترفدهم بالخبرات والمعارف والتجارب، في مجالات مختلفة متصلة بمروحة اهتمامات هذه المؤسسة أو تلك. ولا يمكن أن نتغافل عن أهمية العمل الإسلامي وأطره الفاعلة في مختلف البلدان، إن كانت خيرية ودعوية، أو شرعية. وتأمين مظلّة للشباب تبعدهم عن الانحرافات الفكرية والسلوكية.
وعلى غرار أيّ عملٍ بشري، ففي هذه الجماعات أخطاء كثيرة، ومن أكثر العناوين المتعلقة بالشباب خاصةً، لدى قطاع لا بأس به من الإسلاميين، قضية "التخصصات"، والإعلان المتكرّر عن ضرورة تنوعها، والإصرار على أن يكون في الجسم "الحركي الإسلامي" تنوعٌ كبير كميًا ونوعيًا، وهي لاحقةٌ دائمة لموضوع الطاقات، وضرورة الاستفادة منها وتوظيفها، في دائرة لا تنتهي تبدأ بأهمية التنوع، والدعوة إليها، والتشديد المتكرّر على أهميتها، مع سوق الأدلة من حياة الشباب والصحابة الكرام رضي الله عنهم، وغير ذلك.
وبناء على خطاب التخصّص ذلك، تبدأ هذه الأجسام بدفع أفرادها الى دراسة تخصّصات بعينها، أو "نصحهم" بضرورة دراستها والإلمام بها، وأزعم أنّ الإعلام، ومن ثم العلوم السياسية من أكثر الحقول التي يوجّه إليها الشباب، في سياق مواجهة تنميط الإسلاميين، وغياب أذرع إعلامية "فاعلة" و"منافسة" لهذه الجماعات، تستطيع بيان مواقفها وموقعها، في أتون منافسة شرسة جدًا. وكما ذكرت آنفًا يأتي على أثر الإعلام بعض تخصصات العلوم الإنسانية، وأبرزها العلوم السياسيّة.
مما يمكن أن أبوح به، من باب المشاهدات الخاصة، في محيطٍ إسلامي منوّع في عددٍ من الأقطار الإسلامية، غياب "الباحثين" في هذه الجماعات، ولا أقصد هنا من يستطيع الكتابة فقط، بل أصحاب البحث والنظر والتفسير السياسي، والقدرة المتفردة على متابعة الشأن العام.
وعلى الرغم من كون هذه الأطروحات بالغة الضرورة، ليس للجهة التي تعمل عليها فقط، بل لمجمل المجتمعات المسلمة الواعية بأهمية ذواتها، لكنها تتجاوز شروطًا بالغة الأهمية، وهي:
- الشرط الأول، أن تكون لهذا الكيان الإسلامي مؤسسة تستوعب الفرد على أثر تخرجه، فبماذا ينتفع الفرد بتخصّص لن يجد فيه عملًا بسهولة، بعد أن أفنى فيه سنوات متتالية.
- الشرط الثاني، أن يكون التوجيه قائمًا على دراية ودراسة، وليس على أمنيات عامة، فما هو النفع أن يكون في الجماعة عشرة دارسين للإعلام ولا تمتلك الجماعة منبرًا إعلاميًا واحدًا، فيصبح هؤلاء ثقلًا نوعيًا، ولكنه مبددٌ بين وسائل إعلامية مختلفة، لها أيديولوجيتها وخطها ومخططها.
- أن تنعكس التخصّصات الجديدة في بنية العمل الإسلامي، وهي بنية ما زالت تحتفظ في كثيرٍ من الأقطار بشكلها التقليدي المشيخي. ولست هنا أدعو إلى تحييد طلاب العلم الشرعي، ولكن أدعو إلى تغيير مواقعهم بناء على الكفاءة والدراية، وليس على "سعة" العلم، فربما تأثير موقع الناصح والمرشد سيكون أهم بكثيرٍ من موقع المشرف والمتابع والمسؤول.
وقد تناولت جزءا من هذا الموضوع في مقال سابق حول "السلطة الأبوية لدى الإسلاميين" واستخداماتها، وبيّنت أن جزءًا من هذا التوجيه يتم بناء على هذه السلطة، ضمن دائرة أمنيات الجهة، التي ترغب أن تستوعب ضمن كوادرها أصحاب تخصّصات كثيرة منوعة، ما ينعكس (بحسب نظرة القائمين عليها) على واقع الجماعة، وإطار تأثيرها، ولكنها مع بقاء الشروط السابقة لن تحدث الاختراق المرجو.
وعلى الرغم من هذه الأطروحات الأولية، إلا أنّ الواقع يظهر خلاف ذلك، إن من حيث تراكم التخصصات في جسد الجماعة، من دون أي قدرة على توظيفها في أعمالٍ مباشرة أو غير مباشرة، تُفيد رؤية الجهة التي دفعت هؤلاء إلى الدراسة. وهنا مكمن آخر من مكامن الخلل وهو تهميش هذه التخصصات، لأن هذه الجهة ليست مستعدة لضم أصحابها، ولكونها لا تمتلك الأدوات اللازمة لاستيعاب هذه الطاقة أو تلك، من حيث الاهتمام أو مساحة العمل، أو التوجه بشكلٍ عام.
ومما يمكن أن أبوح به، من باب المشاهدات الخاصة، في محيطٍ إسلامي منوّع في عددٍ من الأقطار الإسلامية، غياب "الباحثين" في هذه الجماعات، ولا أقصد هنا من يستطيع الكتابة فقط، بل أصحاب البحث والنظر والتفسير السياسي، والقدرة المتفردة على متابعة الشأن العام، ومن ثم بناء التحليل ومن التوجه السياسي الواقعي والرزين. وربما هي حالة مركبة، تبدأ من عدم استيعاب التخصصات "الإنسانية"، وحصر التعامل معها بشكلٍ تقليدي، المحصور في مجتمعاتنا بالتدريس فقط، وصولًا إلى النظر دائمًا خارج الصف الداخلي الإسلامي، من حيث المعلومة وجودتها وضبطها، وما بينهما من تنميط، وتحجيم، وتناسٍ، وغير ذلك، مما يؤثر على وجود هذه الطاقات تأثيرًا مزدوجًا.
فمن جهة، لن تظلّ هذه الطاقات، خاملة في صفوف لا تحملها، ولا تستطيع بناء سيرورة متكاملة للاستفادة منها، ما يحدوها للتوجّه خارج الشرنقة، وهو خروج تام، وربما يكون إلى النقيض. أو البحث عن إطارٍ قادرٍ على الاستيعاب والاستفادة، وربما يكون عملًا متصلًا بمدارك ومهارات هذه الطاقات. أما التأثير الثاني، فهو غياب هذه الأصوات عن جسد الجماعة، ما يؤثر عليها، ابتداءً من صناعة القرار، وصولًا إلى الأطر الأدنى، ما يدفع الجماعة للاستعانة بأمثال هذه الطاقات من خارج الصف الداخلي عند الحاجة إليها، وفي مثل هذه الحالات صورٌ كثيرة أخرى يمكن استحضارها.
أخيرًا، لا أقصد من هذه الكلمات الانتقاص أو التهجم، بل التوصيف المنهجي، لخللٍ أثّر ولا يزال يؤثر، وإني أعتقد أنّ الإسلاميين على مختلف توجهاتهم ما زالوا العرق النابض في الأمة، وهم الأكثر قدرةً على التحرّك والبذل، وهم لا ريب سيكونون جزءًا من أي ربيع يمكن أن يحصل، ولكن مع ضرورة إحداث تغييرات تستلهم من الربيع الماضي، وتُعد للربيع الآتي. إلا أن هذا الإعداد يستوجب المزيد من التبصر، في أدواء هذه الجماعات، خاصة تلك التي تركز على مثل هذه القضايا، من دون خطط واضحة، تراعي جوانب الواقع والمقدرات ومساحات العمل.