بين المغرب وليبيا.. إنسانٌ يبحث عن مأوى!
في يومٍ وليلة ضاق الأفق، وبدا الكونُ لي مظلمًا للغاية حين استفقتُ على زلزال المغرب، كانت هزّات هاتفي التي تُوقظني لصلاة الفجر مجرّد تلميحٍ وتمهيد لما كنت سأقرأه بعد قليل، عن هزّةٍ أوقعت ثلاثة آلاف إنسان في حركةٍ واحدة، وهدّمت منازل وحكايات وذكريات، وطمست معالم قرى كاملة، بما حوته من أحلام بسيطة، تتمثّل في بئر مياه وقطعة أرض وبقرةٍ تدرّ الرزق مع الحليب كلّ صباح.
المشاهد القادمة من المغرب الأقصى كانت مفجعة، المآذن المقصوفة، والأسقف الواقعة، والناس الذين يهيمون على وجوههم بلا سابق إنذار، لا يعرفون وجهتهم التالية، ولا يضمنون لحظتهم الثانية، ولم يجرّبوا الشعور ذاته من قبل، حين تتحرّك الأرض بهم في جنون، وتتركهم بين مفقود وفقيد وفاقد، فلا تدع أحدًا إلا ووضعت عليه بصمة الحزن والألم، ولقبًا جديدًا يُضاف قبل اسمه أو بعده.
عمّ الألم كلّ مكان، تلوّنت العيون حزنًا بالأحمر القانئ من السهر، كأنّها تعرف كيف ترسم انعكاس العلم المغربيّ في عدستها، لعلّها تنقل لي الصورة من هناك، وتريني رغم آلاف الأميال ما يجري في البلد المكروب للشعب المنكوب، وتنقل لي الصورة كاملة؛ هذا يفترش الأرض، وذاك يلتحق بالسماء، وبين هذا وذاك بقعة ابتلعت أرواحًا للأبد.
ثم بعدها، بينما لم يلتقط المرء أنفاسه جرّاء ما رأى من صور أنهكته، فاجأته صورٌ أخرى من بقعة أخرى في القلب، من ليبيا، ظننتها في البداية صورًا مفبركة، أو هكذا أردتها، رغم حداثة التاريخ، وحسّي الصحافي الذي سرعان ما أكّد لي الحقيقة الماثلة أمامي؛ زلزال المغرب صار في غضون يومين فقط الخبر الثاني في النشرة، ليس لأنّ الكارثة خفيفة، ولا لأنّ الاهتمام أقل، وليس لأنّ وقتًا مضى عليه فبات أقلّ أولوية، بل نحن في خضمّ الحدث، ولكن ببساطة لأنّ فاجعةً أخرى، لا تقلّ قدرًا، ولا حجمًا، بل قد تزيد، تتصدر المشهد؛ جرحٌ نازف، كوجعٍ يحسّ به المرء المصاب بطلقتين، الفرق بين الرصاصتين ثانية، فلا يعلم مِن أيهما يصرخ، وأيهما تؤلم أكثر.
جرحٌ نازف، كوجعٍ يحسّ به المرء المصاب بطلقتين، الفرق بين الرصاصتين ثانية، فلا يعلم مِن أيهما يصرخ، وأيهما تؤلم أكثر
درنة مغمورة بملايين الأمتار من المياه، الناس الذين في الأدوار العليا اختفوا، فكيف الذين كانوا يعيشون بالأسفل؛ كلّ شيء أصبح كأن لم يغنَ بالأمس، الوحل يغطي كلّ شيء، والطين جعل المدى بُنيًّا كأرضٍ مقفرة أمطرتها غمامة فجأةً، فأنبتت فيها بدلًا من الزروع أنقاضًا، وبدلًا من الناس أشلاءً، وبدلًا من البيوت بقايا أحجار.
أيُّ كارثةٍ تلك التي تشمل كارثتين في قلب واحد؟ كلّ كارثة كبيرة بحدّ ذاتها، لكن أن تصاب بنوبتين في مرة واحدة؟ أيّ قلب ممزّق سيبقى فيك؟
أنظر حولي فلا أجد إلا مدى فارغًا من العمارة والسكان، وبقايا بشر يبحثون عن مكانٍ لا تُباغتهم فيه المياه وهم نيام، وأنظر غربي فلا أجد إلا مدى مزدحمًا بالركام وبقايا الأثاث، وأناسًا يفترشون ما تبقى من أسرّتهم، مع ما تبقى من أُسرهم، وأنظر داخلي، فلا أجد إلا مضغةً حزينةً، تسكن إنسانًا لا يسكن مكاناً، يحزم أمتعته، ويبحث، مع أحبابه، عن مأوى!