بتعرفي "تدحبري" منسف؟

20 نوفمبر 2022
+ الخط -

في مدينة تشنغدو بالصين، تعرّفني صديقتي الصينية، لينّا، على معالم المدينة، وتأخذني في رحلات استكشافية في العادات والتراث، أتذكّر أنّ أوّل ما تحدثنا به كان الطعام، إذ لمحتْ شوكة في حقيبتي.

تُشكّل عيدان الأكل مع غيرها من التفاصيل الهوية البصرية للإنسان في الصين، وقد تحدث المؤرخون (منهم ويل ديورانت) عن تاريخها الممتد لأكثر من ثلاثة آلاف عام، إلا أنّنا كعرب يَغلبُ استخدامنا الملاعق وأيدينا في الأكل، ونجد صعوبة في استخدام العيدان. يبدأ استخدامها من حملها بطريقة صحيحة مختلف عليها، فلو حاولت الاستعانة ببعض فيديوهات "يوتيوب" لتتعلّم كيف تحملها ستجد اختلافاً لافتاً بين المدونين.

قالت لِينّا: "تُحرّك طريقة الأكل بالعيدان خمسين عضلة في الأصابع والمعصم والذراع والكتف". بحثتُ عبر الإنترنت عن مدى صدق ادّعائها، لأجد إضافة إلى ذلك، أنّ أكثر من ثلاثين مفصلاً يشترك في تسهيل هذه المهمة اليومية التي يشترك بها ثلثُ سكان الأرض تقريباً.

شخصياً، وكملاحظ مهتم، رصدتُ أسباباً عدة تصعّب علينا، نحن ثلثي العالم المتبقي، استخدام عيدان الأكل بفاعلية، سأسردها أدناه: 

أولاً، لا خبرة ولا تدريب، ما يؤدي إلى أداءٍ سيئ.

وبالنظر إلى عدد العضلات والمفاصل غير المدرّبة، والخبرة شبه المعدومة في إحكام السيطرة على العيدان، يستصعب المستخدم الجديد حمل العيدان. خلال أسبوعي الأول في الصين، حملتُ شوكة في حقيبتي، وكنتُ أشعر بآلام في ذراعي وآخذ راحة بين حين وحين أثناء الأكل، وكنتُ أغضب لصعوبة الأمر، إلا أنّ ابتسامات أصحاب المطاعم ولطفهم حالت دون أن أظهر غضبي وامتعاضي.

المعرفة نقيض الجهل. تَخفتُ حدّة الأحكام حين نفهم، ويحلّ مكانها التقبّل

ثانياً، تُمسكُ العيدان أفقياً، لا مائلة كما نحمل الملعقة. معرفة ذلك حسنت من قدرتي على حمل "النوديلز"، ومنحتني قدرة على الاستمرار في الأكل دون امتعاض.

ثالثاً، لا بأس، طأطئ رأسك حتى تُلامس شفتك السفلية الصحن.

ينحني الصينيون فوق الصحون، ويقتربون منها مع إمالة الوعاء، وهو ما قد يكون مستهجناً في عادات الطعام عندنا. إلا أنها استراتيجية منطقية في إطارها، وتُسهّل الأكل بالعيدان وتجعلها أكثر فاعلية.

رابعاً: يصدرُ صوتٌ غير مستحب حين تشفطُ المرق أو الأكل من الوعاء، أقول غير مستحب (وأقصد عندنا)، أما هنا فالأمر غير مستهجن البتّة.

خامساً، شفاهُنا ليستْ مدرّبة على تقبّل درجات الحرارة العالية.

حتى وإن تمكّنتَ من استخدام عيدان الأكل، واتّبعت عاداتِهم دون حرجٍ ستبقى لديك مشكلة الأكل الحار، وأقصد الحار بشقّيه، الساخن والمُتبّل. فحتى وإن نفختَ لتُبرّد الطعام فإنك ما إن تبدأ بسحب خيوط "النوديلز" إلى فمك حتى تبدأ بالخروج من المرق الساخن الذي لم تتدرّب شفتاك يوماً على احتماله، ما يؤجّل اندماجك الكامل في التجربة بضعة شهور، يعتاد خلالها فمك على درجة الحرارة والشطّة المصاحبة.

تضحك صديقتي الصينية على طريقتي في الأكل، تقول لي: "إنها سهلة جداً، هل ترى؟"، وتتباهى أمامي بقدرتها الفذّة على التقاط خيوط "النوديلز" وشفطها بسرعة والقدر يغلي! ففكرتُ في طريقة خفيفة الظلّ للرد عليها: "بتعرفي تدحبري منسف؟".

وعلى خطى طريقتها في التباهي، بحثتُ في "اليوتيوب" عن طريقة أكل المنسف باليد.

قالت لي بإنكليزية خجولة ركيكة: "ناهيك عن أنها طريقة صعبة، إلا أنها مقرفة عبد الله!".

ردّاً عليها، قرّبتُ شفتي من الصحن المائل أمامي، وأخذتُ رشفة من الحساء، ثم عدلتُ جلستي وأنا أنظف فمي بمنديل لا يفارق يدي: "كنتُ أقول ما تقولين حين أراكم تأكلون"، ثم استأذنتها وأمسكتُ الهاتف لأبحث عن ترجمة آية في القرآن الكريم. 

"لتعارفوا!" ردّدتها، وتابعت: "المسلمون الصينيون هنا يأكلون بالطريقة ذاتها"، ثم رفعتْ حاجبيها مستغربة.

- بالضبط. المعرفة نقيض الجهل. تَخفتُ حدّة الأحكام حين نفهم، ويحلّ مكانها التقبّل.

قلتُ فهزّت رأسها. ولأنني عربيّ يحترم عاداته، حلفتُ عليها، ودفعتُ الحساب.

عبد الله زيود
عبد الله الزيود
كاتب فلسطينيّ أردني، يعمل أخصّائيًا تربويًا في مجالي الإثراء والدمج ومنسقًا لخدمات الدعم في المدارس العالمية، حاصلٌ على عدّة جوائز أدبية منها، جائزة مؤسسة محمود درويش عام 2015. صدر له رواية تحت عنوان "يلتهم نفسه بادئًا بقدميه"، ورواية لليافعين تحت عنوان "العودة إلى ما بعد الكوكب الأحمر"، ومجموعة قصصية بعنوان "باولا". يقول "هذا كل ما لديّ: الكتابة. لستُ أعرف طريقةً أسمى للعيش، ولا مهرب من كلّ حزن الكون... سواها".