أدب المسكنات والوداع
حين أفكّر بالأيام التي تسبق الموت، ينفتح درجٌ في ذهني على كتابات في الثقافة العربية المعاصرة كان لها تأثير مؤلم، مدهش ولا يمّحي من ذاكرتي، كتاباتٌ شكّلتني، وعبّدت (ولا تزال) بشكل أو بآخر طريقي إليه، حيث تنتهي رحلة من المتاعب والمتع منثورة بشكل غير منتظم على سجادة العمر، في الممر الضيق القصير الذي يفصل بين غرفتين.
بدأتُ أول قراءاتي لأدب المسكنات والوداع قبل أربعة عشر عاماً مع "إليها بطبيعة الحال" للكاتب الساخر محمد طمليه "الفلسطيني من أصل أردني" كما أحبّ أن يصف نفسه.
في "إليها بطبيعة الحال" كتب طمليه مقالات لامسة ومؤثرة عن تردّده على مركز الحسين للسرطان، وعن سروات ثلاث كان يراها من شباك غرفة المستشفى، وعن شماتة بعض من زاروه في مرضه وعن الحب والأم والأصدقاء.
"يوجد في المرض أيضاً شامتون، قالها أحد زواري في المستشفى "منها للي أكبر منها"، وكان يعنيها بالفعل (أنا أعرف) وباءت محاولته أن يبدو مازحاً بالفشل. وقال أحمق آخر: إصابتك في اللسان، دليل على أن لسانك وسخ. ومن المؤكد أنك كذبت كثيراً، ونمام، وتفشي أسرار الآخرين، وتقذف المحصنات الغافلات بما لا يرضي الله ورسوله".
إلا أنه لم يتخل عن أمل (رغم فرادة أمله وطريقة تعبيره عنه) كان يتسرّب إلى قارئ تجربته الغنية بين مقالة وأخرى. "يغيظني أنني سأهزم مرضي الشخصي، وأخرج من المستشفى، ثم أعود في باص المؤسسة إلى "المقبرة كالآخرين تماماً".
وفي الأمل، يتشارك طمليه مع محمد أبو الغيط في ما ذهب إليه في مقالاته الأخيرة. إذ يبدو أنّ من أسلحة السرطان المعلنة تزويد أصحابه بالأمل وتفتيته على جرعات نقيض جرعات الكيميائي، كأنه ينظر من فوق إلى حامليه، يرخي قبضته عنهم ثم يعصرها بأشد مما كان، هكذا.. حتى الفراش الأخير.
اللافتُ في تجربة الطبيب والصحافي أبو الغيط أنه بحكم تخصّصه العلمي كان قادراً على إشراك قرائه بأسماء الأدوية والعلاجات ومستويات المرض والتجارب الدوائية وعملية التواصل مع مراكز مختصة حول العالم وأسماء أطباء وإجراءات دقيقة لا تتسنى لغير المختص، وهو بذلك يضيء على منطقة أخرى في رحلة المسكنات والوداع، ويصعّب الأمر على قرائه إذ يشعر أحدهم بأن أنبوب التغذية الذي يصفه عالقٌ في حلقه لا حلق أبو الغيط، وبأن الآلام في جسد قارئ لن يقوى على النهوض بعد وصفه لقدميه بقدمي الفيل على أثر تجمّع السوائل فيهما.
سخرية محمد طمليه في "إليها بطبيعة الحال"، فلسفة حسين البرغوثي في "سأكون بين اللوز"، ودقة محمد أبوالغيط في وصف الألم في "أنا قادم أيها الضوء". المشترك في التجارب الثلاث التي تعمّقتُ في قراءتها على مدى أربعة عشر عامًا هو ما أسميه بعين المواجهة
شخصياً ظللتُ أقرأ والدموع في عيني حتى وصلت إلى مقطع فجّر فيّ نبعاً من البكاء. "سألتُ نفسي مراراً عن المعنى. حين أتخيل ما سيحدث بعد موتي أتخيل أن أصدقائي وأهلي سيحزنون بصدق، لكن سيتجاوزون ذلك بعد فترة طالت أو قصرت. حتى إسراء ستفعل رغم غضبها حين أخبرتها بذلك، وأني سأكون سعيداً لسعادتها لا لغرقها في حزن أبدي. الشخص الوحيد الذي أشعر أنه لن يتجاوز غيابي بسهولة هو ابني. كلما فكرت به يتيماً دمعت عيناي. وكلما فكرت فيه صمّمت أن أحتمل لأقصى مدى ممكن، وأسعى بلا حدود لأي وسيلة بأي ثمن تجعلني أبقى معه لفترة أطول، ولو لبضعة أيام لا أكثر. أتأمله يلعب لاهياً.. آه لو يعرف".
طمليه كان وحيداً، ولكن أبو الغيط كانت لديه عائلة، وهي تشبه إلى حد كبير عائلة الأديب الفلسطيني حسين البرغوثي، الذي وثّق بدوره، وبشكل فلسفي عميق غارق بالذكريات والموروث تجربته مع السرطان، إسراء بمقابل بترا، يحيى مقابل آثر.
يروي البرغوثي في "سأكون بين اللوز" حادثة عن توهانه في مستشفى رام الله وسؤاله عن مكتب طبيب أمراض الدم لتنهره ممرضة مستعجلة: "نحن في حالة طوارئ! ألا ترى؟"، فيدرك أنه شخص زائد على الحاجة، على حدّ تعبيره، مريض متطفل يمشي نحو مصيره وحده، بهواجس فردية.
إلا أنه كذلك لم يتخلّ عن الأمل، وكان هذا جلياً في قصة عن أختين ورسام عجوز، يعيشون في البناية القديمة نفسها. وكلما التقى إحداهما في سلّم الدرج كان الرسام يقول: "يوماً ما سأرسم رائعتي، وأبيعها، وأطوف بكما العالم".
مرضت إحدى الأختين ودخلت المشفى، كانت تستلقي على سريرها وتنظر من نافذتها إلى الشجر العاري فتحدّث نفسها: سأموت مع سقوط آخر ورقة عن الشجرة، وكان هذا الرسام يصعد بالليل بعد أن تنام إلى جذع الشجرة ويرسم ورقة لا تسقط أبداً.
حين استعادت الفتاة عافيتها، تسلقت الشجرة لترى تلك الورقة التي جعلتها تتشبث بالحياة فوجدتها مرسومة على أحد الفروع. وحين التقت العجوز في سلّم الدرج قالت له: "لقد رسمتَ الآن رائعتك".
سخرية محمد طمليه في "إليها بطبيعة الحال"، فلسفة حسين البرغوثي في "سأكون بين اللوز"، ودقة محمد أبو الغيط في وصف الألم في "أنا قادم أيها الضوء". المشترك في التجارب الثلاث التي تعمّقتُ في قراءتها على مدى أربعة عشر عاماً هو ما أسميه عين المواجهة، حيث ينظر المصاب بعين الموت، خائفاً تارة ومتحدّياً تارة أخرى، ثم تشفّ هذه الرؤية عن حكمة أجزم بأنها لا تُعطى لغير سالك أدرك أهوالها، ابتداءً من واقع التغيير الذي يلحق التشخيص، وليس انتهاءً بالخيال الذي يتضخم حتى يصير بحجم كائن ضخم لا يُرى، يتنفس في وجه صاحبه في غرفة العناية الحثيثة. والأمل، الأمل الذي يرافق أصحاب كلّ قصص الذين نحبهم، مثل صعود في منحنى الحياة، يليه هبوط مكاني تحت التراب، يتبعه ذكرهم الطيب بعد الوفاة.
أسميه أدب المسكنات والوداع، لأنّ مبدعيه تحيّنوا فرص الكتابة عنه بين أوجاعهم التي استعانوا عليها بالمسكنات التي لم تكن فعّالة طوال الوقت، ومع هذا لم يبخلوا علينا بتوثيق لحظاتهم الأخيرة ومشاعرهم وأملهم الذي ظلّ يبرعم بين سطور محترقة ورماد، ثم قدموا لنا أعمالهم، مثل تلويحة لا تنسى، في الوداع.