المغرب واليمين المتطرّف في فرنسا
يطرحُ الحديث عن علاقةِ اليمين المتطرّف الفرنسي بالمغرب، أو بالأحرى العلاقات الفرنسية المغربية بصفةٍ عامة، العديد من الاحتمالات التي لا يمكن بسطها وتناولها إلّا في ظلِّ استحضار السياق العام للمشهدِ الانتخابي الأخير الذي عرفته فرنسا، وما شهده من تحوّلاتٍ وتغييراتٍ سياسيةٍ، من المحتمل أن يكون لها أثر على مستوى العلاقاتِ الدولية والسياسات الخارجية لفرنسا مع مجموعةٍ من الدول، بما فيها المغرب. ومن ناحيةٍ أخرى، وفي الحديث عن علاقة المملكة بفرنسا وتأثيرها على المجالاتِ الاقتصادية والدبلوماسية والسياسية، لا يمكن إغفال الموقع الجغرافي للمغرب ودوره الجيو - السياسي بالاتحاد الأوروبي، والأهمية الاقتصادية للمغرب بالنسبة لفرنسا.
إنّ تناولَ المشهد الانتخابي الفرنسي ليس سهلًا في ظلِّ المتغيّرات التي شهدتها فرنسا من اضطراباتٍ وتوتراتٍ اقتصاديةٍ واجتماعيةٍ، أدّتْ إلى نشوبِ أعمال شغب أفضت بدورها إلى التصادم بين المجتمع والدولة وتبادل العنف المادي والرمزي، ولمست هذه التغيّرات السياسات الخارجية لفرنسا بمجموعةٍ من الدول، والتي عرفت توتّرًا وصل في بعض الأحيان إلى قطع العلاقات الدبلوماسية، ويرجع الأمر إلى سياسة الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، في هذا الاتجاه الذي وجد نفسه وسط أمواج الغضب الشعبي العاتية.
كما أنّ حلّ البرلمان وإجراء انتخابات تشريعية، وإن بدت في ظاهرها خطوةً ديمقراطية، فرضتها انتخابات نتائج البرلمان الأوروبي، التي منحت تقدّمًا لليمين المتطرّف، ممّا يعني فقدان الحكومة للحاضنة الشعبية، فإنّ هناك توجّهًا داخل دواليب القرار الفرنسي يرى أنّ هذه الخطوة هي مجرّد مراوغة سياسية من الرئيس الفرنسي، لسحب البساط من اليمين المتطرّف وإظهار حجمه الحقيقي أمام الفرنسيين، إن كان حصوله (اليمين المتطرّف) في الانتخابات التشريعية على أكثر من 8,7 ملايين صوت، أي 32,05 بالمائة من الأصوات المُعبّر عنها، وهو رقم لا يمكن تجاوزه بسهولة.
الانتخابات التشريعية أفرزت ثلاث كتل، وهي تحالف اليسار، المجتمع تحت راية "الجبهة الشعبية" الجديدة بـ182 مقعدًا، والمعسكر الرئاسي، تحت راية "أونسومبل"، بـ168 مقعدًا، بينما حصل التجمّع الوطني (اليمين المتطرّف) وحلفاؤه على 143 مقعدًا. وهذه الكتل لم تحصل أيّ منها على الأغلبية المطلقة، مما يفرض الدخول في مفاوضاتٍ شاقة وطويلة، الأمر الذي يعني أنّ فرنسا ستعيش صيفًا حارًا وحارقًا على المستوى السياسي، وهو الواقع الذي فرض على ماكرون رفض استقالةِ رئيس الحكومة حفاظًا على استمرارية المؤسّسات، والدخول في مفاوضاتٍ سريّة مع اليمين المتطرّف.
اليمين المتطرّف الفرنسي كان من ضمن المُساندين لمغربيّة الصحراء والمعارضين لسياسة ماكرون وموقفه من القضية
صعودُ اليمين المتطرّف كأوّل قوة سياسية خلال الدور الأوّل له قراءات عدّة وخاصة، في ظلِّ تبني حزب، مارين لوبان، أهدافًا وبرنامجًا حزبيًا يناهضُ الإسلام، ويحارب توافد المهاجرين إلى فرنسا، ويبحث بناء هُويّة فرنسية خالصة، إن صح التعبير، في سياقٍ عالمي متسم بصعودِ اليمين المتطرّف في عددٍ من البلدان وعودة القومية بشكلٍ ملحوظ إلى الواجهة، وفي المقابل كانت تخوّفات المهاجرين والمسلمين واضحة من نيل هذا الحزب للمرتبة الأولى.
كما لُوحظ أيضًا خوف بعض الدول من صعود اليمين المتطرّف، ومن بينها الجزائر التي لا يخدم هذا الحزب سياساتها، وبالضبط فيما يتعلّق بقضية الصحراء التي تعدّ الجزائر طرفًا أساسيًا ورئيسيًا في استمرار هذا النزاع الإقليمي الذي تعتبره الرباط مفتعلًا.
في حين أنّ المغرب قطع أشواطًا مهمة في هذه القضيّة، ونال اعترافًا من أقوى الدول بحقّه في الصحراء، وحظيت مبادراته بالقبول والتنويه الدولي المتنامي، والذي يمكن ملاحظته من خلال فتح مجموعة من الدول قنصلياتها في الصحراء المغربية، والاعتراف الأميركي.
اليمين المتطرف الفرنسي كان من ضمن المُساندين لمغربيّة الصحراء والمعارضين لسياسة ماكرون وموقفه من القضية، لزومه المنطقة الرمادية، وهو الأمر الذي تسبّب في أزمةٍ ديبلوماسية بين باريس والرباط، وإن بدت مؤشرات إيجابية، في الآونة الأخيرة، لعودةِ الدفء للعلاقات. وكما هو معلوم، زار قياديون في حزب الجبهة الوطنية المغرب العام الماضي، ممّا يبرز دور الدبلوماسية الحزبية في السياسات الخارجية وآثارها، وركزت هذه الزيارة، في محاولةٍ لربح مزيدٍ من النقاط أمام الرئيس الفرنسي، على تحسين العلاقة بين المغرب وفرنسا، التي عرفت توترًا واضحًا في السنوات الأخيرة بفعل السياسة الخارجية لماكرون ومواقفه المتلبسة في علاقاته مع الرباط.
ورغم أنّ اليمين يتبنى سياسة مناهضة للمهاجرين، فإنّ هذا المعطى يبقى قابلًا للتفاوض بالنسبة للمغرب، عكس ملف الصحراء الذي أصبح وفق العقيدة الدبلوماسية المغربية "المنظار الذي يرى به العالم"، وبالتالي فإنّ صعود اليمين المتطرف للحكم يومًا ما قد لا يشكل أيّ إزعاج للرباط، في ظلّ موقفه الواضح من قضيّة الصحراء.
وبناء على ما سبق، شكلت هذه التيمات التي ذكرناها أهم المحاور الكبرى التي تطرح المشهد الانتخابي الفرنسي والتركيبة الحزبية وأهداف اليمين المتطرّف وتجاوزها للمستوى الداخلي وأبعادها على المستوى الخارجي. وفي هذا الصدد، لا بد أن نشير أنّ تقدّم اليسار واحتلاله المرتبة الأولى، خلال الدور الثاني لهذه المحطة الانتخابية، هو أيضًا في صالح المغرب، خاصة أنّ، جان لوك ميلانشون، أحد أبناء مدينة طنجة المغربية، وتجمعه علاقة بالمغرب، غير أنّ كلّ ما يُقال في هذا الصدد يُعتبر مجرّد احتمالات وفرضيات لا يمكن الأخذ بها بشكلٍ مطلق، حيث لا يمكن بناء ثقة مطلقة وفق برامج حزبية وآراء قاداتها، بل الواقع والممارسة هما المحدّد الأساسي لتقديم براديغمات أكثر واقعية وبناءة.