المعرفة بين الرغبة والخشية
في بداية الشهر الماضي تقريبًا، كان موعد الجلسة الأولى من محاضراتي في جامعة لايبزيغ عن "العلمانية في الفكر العربي المعاصر". وقيل لي إنه ينبغي لي أن أقوم، بنفسي، بوضع المعلومات الخاصة بالمحاضرات على موقع الجامعة. وقد بذلت جهودًا كبيرةً، ووقتًا طويلًا، للقيام بذلك، بدون أي جدوى. وقد رأيت في ذلك علامةً على بلوغي "سن اليأس"، ودليلًا على عجزي المتزايد، في مثل هذه السياقات، عن إنجاب أو توليد المزيد من الطاقة أو المعرفة اللازمة لمواكبة تطوّرات الحياة المتسارعة. وفكرت، جديًّا، في الاعتذار وإلغاء هذا السيمينار، لكن قبل الشروع في تنفيذ ذلك، طلبتُ مساعدة إحدى الطالبات العاملات في الجامعة. وخلال اجتماعي، حضوريًّا، بالطالبة المذكورة، أخبرتني بوجود عطلٍ أو خطأٍ في البرنامج الذي بدأت الجامعة استخدامه لعرض المعلومات عن السيمينارات في موقعها، وأنّ هذا هو السبب في عدم قدرتي على وضع المعلومات الخاصة بمحاضراتي. شكرت الطالبة بحرارة على هذا الخبر، الذي سرّني كثيرًا، لأنه ساعدني على الاستعادة المؤقتة لثقتي في نفسي في هذا الخصوص، وإدراك أنّ الخطأ، هذه المرة، لم يكن خطأي. وأرجح أنّ توّجسي من هذا الأمر، وخشيتي من اقتراب حدوثه، هما ما جعلاني أتسرع في الاعتقاد بأنّ الأمر قد حصل فعلًا.
ليس نادرًا أن يفرط الإنسان في تشاؤمه وتفاؤله، تحت تأثير الخشية أو الرغبة أو الاعتقاد بفكرةٍ ما. فهناك من لا يميّز كثيرًا بين ما يخشى حصوله، وما يتوّقع حصوله، ويخلط بين الأمرين، في مزيجٍ، غير دقيق معرفيًّا، وغير مريحٍ نفسيًّا. في المقابل، قد تؤثر الرغبة في الاعتقاد، بحيث يتوّقع الإنسان حصول ما يرغب في حصوله. وهذا هو التعريف الفرويدي للوهم.
في المقابل قد نبني توّقعاتنا بناءً على اعتقادنا بأفكارٍ تتعلّق بصيرورة الواقع والقوانين التي نرى أنها تتحكم أو تتعلّق بذلك الواقع وتلك الصيرورة. فعلى سبيل المثال، عرفت، في مرحلة دراسة الإجازة الجامعية، طالبًا متفوّقًا كان يعتقد جدًّا بمصداقية الحكمة القائلة: "من جدَّ وجد، ومن سار على الدرب وصل". ولأسبابٍ تتعلّق بالعشق والغرام، لم يستطع ذلك الطالب التحضير جيدًا للامتحانات، في أحد الفصول الدراسية. فدخل شهر الامتحانات، وهو يعتقد أنّ نتائجه الامتحانية في هذا الفصل ستكون أقل جودة من نتائجه الامتحانية في الفصلين السابقين، أو بأنه سيفشل في الحصول على علامةٍ جيدةٍ في امتحانٍ واحدٍ على الأقل من امتحانات ذلك الفصل. وعلى الرغم من ذلك التوّقع أو الاعتقاد، الذي بدا له موثوقًا وأكيدًا حينها، مضت الأمور على خير ما يرام، في الامتحانات الأربعة الأولى. وبدا ذلك مفاجئًا له وصادمًا لتوقعاته ولاعتقاده بالحكمة المذكورة.
الخشية من حصول أمر ما، قد تدفع العقل إلى التقليل من إمكانية حدوثه، رغم أنّ المعطيات ترجح ذلك الحدوث بدرجةٍ أكبر
في امتحان المادة الخامسة والأخيرة، بدا له السؤالان الامتحانيان معقولين جدًّا ومقدورًا عليهما جدًّا عمومًا، لكن كان لديه يقينٌ نفسيٌّ في المقابل، أنه "لن يجدَ ما يسعى إلى إيجاده، لأنه لم يجدَّ بالدرجة الكافية". وبعد مضي أقل من نصف ساعةٍ على بدء الامتحان أحسَّ ببعض الصعوبة في إكمال الإجابة عن أحد السؤالين المكوّنين لهذا الامتحان، فلم يتردّد في تسليم ورقته الامتحانية والانسحاب من ذلك الامتحان. وأقنع نفسه حينها أنه من الأفضل تأجيل التقدم إلى امتحان هذه المادة إلى الفصل التالي، ليضمن الحصول على علاماتٍ عاليةٍ فيها. الطريف في الأمر، أنه حصل، في امتحان تلك المادة في الفصل التالي، على أقل علامة ممكنةٍ للنجاح، وأسوأ علامةٍ في كلّ الامتحانات الجامعية التي تقدّم إليها سابقًا ولاحقًا. وقد تبيَّن له أنه لو لم ينسحب من امتحان تلك المادة في المرة الأولى، لحصل، على الأرجح، على علامةٍ أفضل أو أقل سوءًا بكثيرٍ من تلك التي حصل عليها لاحقًا.
يمكن النظر إلى اعتقاد الطالب المذكور، والكثيرين غيره، بالحكمة المذكورة بأنه وهمٌ أو يتضمن سمة الوهم أيضًا. فمن مصلحة المتفوّقين عادةً الاعتقاد بأنّ تفوّقهم هو حصيلة جدهم واجتهادهم، وأنه ليس نتيجةً اعتباطيةً أو مجرّد حصيلةٍ لظروفٍ موضوعيةٍ بالدرجة الأولى، يلعب فيها الحظ والقدر دورًا (كبيرًا) ما. في المقابل، يمكن للوعي بهذا التأثير السلبي للرغبة في الاعتقاد، والعمل على تجنّب هذا التأثير، وللخشية من عدم حصول ما نرغب في حصوله، أن يفضي إلى نتائج معاكسة في الاتجاه، بدون أن تكون موضوعيةً أو واقعيةً.
إذا كانت الرغبة تفتح باب الأوهام اللذيذة، فإن الخوف قد يفتح باب الأشباح المخيف
انطلاقًا من ذلك، يمكن التشكيك في الثنائية التبسيطية المكوّنة من الإرادة المتفائلة والعقل المتشائم. فالعقل قد يكون متفائلًا، ومتطرّفًا في تفاؤله وتوقعاته، نتيجةً لمرغوبية الموضوع وميل الإرادة له، والإرادة قد تكون جامدةً ومتشائمةً نتيجة لتأثرها باعتقادٍ أو فكرةٍ ما، رغم أنّ العقل يقدّم لها معطياتٍ تسوِّغ تفاؤلها وتوّقعاتها الإيجابية.
وعلى هذا الأساس، يمكن القول مع الفيلسوف الفرنسي، رينيه ديكارت، إنّ الخطأ الذي نقع فيه، في كثيرٍ من الأحيان، يكمن، تحديدًا، في التفاوت بين معطيات العقل وتوجّهات الإرادة. ففي حال توفّر الرغبة، قد يميل الإنسان إلى تجاوز المعطيات المعرفية المتوفّرة لديه، والجزم بما لا تسمح تلك المعطيات بالجزم به. في المقابل، إنّ الخشية من حصول أمر ما قد تدفع العقل إلى التقليل من إمكانية حدوثه، رغم أنّ المعطيات ترجح ذلك الحدوث بدرجةٍ أكبر.
ولا تقتصر المعادلات المذكورة على أحكامنا المتعلقة بالحياة الخاصة، بل تمتد إلى تلك المتعلقة بالحياة العامة أيضًا. وبدا ذلك واضحًا في القائلين بحتمية انتصار الثورة أو بحتمية فشلها. وتزداد إمكانية التأثير المتبادل السلبي، في المستوى المعرفي، بين المشاعر والرغبات والإرادة والعقل، عند وجود اعتقاد بأخلاقية هذا العالم أو غائيته، أي بأنه مخلوقٌ أو موجودٌ لتحقيق غايةٍ أو حكمةٍ أو رؤيةٍ أو قوانين أخلاقيةٍ ما. ففي هذه الحالة تزداد النزعة الإرادوية، التي تظهر، على سبيل المثال، في قول الشابي: "إذا الشعب يوما أراد الحياة فلا بدَّ أن يستجيب القدر". في المقابل، إنّ الاعتقاد بخلو العالم من أيّ سمةٍ أو وجهةٍ موضوعيةٍ أخلاقيةٍ، قد يُفضي إلى تبني النزعة الجبرية التي تستهين بدور إرادة الإنسان وقدرته على الفعل والتأثير القوي في مجريات القدر والضرورة.
بين الجبرية والقدرية، بين الضرورة القاهرة والذات القادرة، بين البنية الشاملة والذات الفاعلة، تنوس ممكنات الواقع، وإذا كانت الرغبة تفتح باب الأوهام اللذيذة، فإن الخوف قد يفتح باب الأشباح المخيفة. وبغض النظر عن اللذة والخوف المرافقين للأوهام والأشباح، فإنّ تجنب الانزلاق إلى التموضع في أحد هذين الطرفين أمرٌ ضروريٌّ غالبًا لتجنّب الانزلاق إلى الأحكام الانفعالية غير الدقيقة.