"القضية الفلسطينية" بين نارين: الحق يُبنى وليس معطى

10 أكتوبر 2023
+ الخط -

في الأيام الأخيرة تلقى الأساتذة والطلاب في عدد من الجامعات الألمانية رسائل من جامعاتهم تناشدهم فيها "المشاركة في وقفة للتضامن مع ضحايا إسرائيل والتبرّع لضحاياها من المتضرّرين بطريقة مباشرة أو غير مباشرة يوم الأربعاء السادسة مساء". وحدث هذا في ظلّ منعٍ أو عرقلةٍ لأيّة تظاهرةٍ داعمةٍ للفلسطينيين. ولا يتعلّق ذلك المنع بالأحداث الجارية حاليًّا في فلسطين وقطاع غزة فحسب، فهو سارٍ منذ مدةٍ، وظهر، على سبيل المثال، في منع المظاهرات في ذكرى يوم الأسير الفلسطيني في أبريل/ نيسان الماضي، ومنع مظاهرات ذكرى النكبة في مايو/ أيار الماضي. وعلى الرغم من الخصوصية الألمانية في هذا الشأن، فإنّ هذا التحيّز غير المنصف موجودٌ بدرجاتٍ شتى في (معظم) دول العالم الغربي، وهي الدول ذاتها التي تشدّد على حق أوكرانيا في الدفاع عن نفسها في مواجهة العدوان/ الاحتلال الروسي وتدعمها دعمًا غير مسبوقٍ، عسكريًّا وسياسيًّا واقتصاديًّا وإعلاميًّا.

ثمّة نقطتان ينبغي التشديد عليهما، بالتوازي وبالقوة ذاتها، في هذا الخصوص. من ناحيةٍ أولى، إنّ سياسات الدول الغربية تعبّر عن توجّهاتها السياسية ومصالحها وانحيازاتها وخصوصية تاريخها أكثر بكثير مما تعبّر عن المنظومة الحقوقية الأخلاقية والقانونية والسياسية التي كان لهذه الدول ذاتها الفضل الكبير في الإسهام في قيامها وانتشارها. ومن ناحيةٍ ثانيةٍ، لا يكفي أن يكون طرفٌ ما مظلومًا، لكي يكون الحق معه، ولكي يكون على حقٍّ في كلّ ما يفعله. ولهذا، ينبغي عدم استسهال تصديق أو تأييد الضحايا والناجيات والناجين أو تأييد كلّ ما يقولونه ويفعلونه.

فمن الناحية الأولى، من المفارقات المذهلة أنّ الدول الغربية ذات النظام الديمقراطي هي أقلّ الدول تبنيًّا لقيم الديمقراطية ومبادئها في علاقاتها مع الخارج والدول الأخرى، في حين أنّ الدول ذات النظم الاستبدادية هي أكثر الدول مطالبة بالمساواة والديمقراطية في المستوى الدولي وفي العلاقات بين الدول. والأمر ليس نابعًا مباشرةً من ديمقراطية أو استبدادية النظام السياسي في هذه الدولة أو ذاك، بل هو نابعٌ، من ناحيةٍ أولى، من كون النظام الديمقراطي نظامًاً داخل الدولة وليس نظامًا بين الدول، ومن كون علاقات القوة والمصلحة الوطنية الضيقة هي المؤسّسة لسياسات الدول الخارجية. وعلى أساس ذلك، يمكن القول إنّ السياسات العملية والخطابات النظرية للدول الغربية لا تتبنى، في أحيانٍ كثيرةٍ، النظرة الحقوقية الأخلاقية القائلة بالمساواة المبدئية الأخلاقية بين البشر، ولا تعترف بامتلاكهم لحقوقٍ متساويةٍ. ويظهر ذلك مثلًا في قول الرئيس الأميركي جو بايدن، وآخرين كثر، "إسرائيل تملك الحق المطلق في الدفاع عن نفسها، نقطة من أول السطر". والنقطة التي تنهي الجملة، وتشدّد على ضرورة البداية في سطرٍ آخر، تنفي وجود حدودٍ لهذا الحقٍ، ووجود حقٍ آخر موازٍ للفلسطينيين في الدفاع عن أنفسهم. وانطلاقًا من ذلك، لا ترتفع (بقوةٍ) أصوات الشجب والتنديد، ولا تظهر المناشدات، في سياق الصراع الفلسطيني/ العربي الإسرائيلي، بوجوب التصدّي للإرهاب والعنف ومعاقبة فاعليه وإيقافهم عند حدهم إلا عندما يكون الضحايا إسرائيليين وممارسو العنف من الفلسطينيين أو العرب. ومن الواضح، أنّ القيمة العملية والفعلية للإنسان الإسرائيلي أعلى بكثيرٍ من القيمة التي يتمتّع بها الإنسان الفلسطيني والعربي عمومًا في نظر أصحاب الأصوات العالية المذكورة. وتظهر هذه الأحادية في معظم المسائل المتعلقة بالصراع المذكور. فعلى سبيل المثال، في خضم منع أنصار القضية الفلسطينية من إحياء يوم ذكرى النكبة الفلسطينية، أحيت رئيسة المفوضية الأوروبية، الألمانية أورسولا فون ديرلاين، ذكرى النكبة بوصفها ذكرى قيام دولة إسرائيل وتحدثت عن "تحقّق الحلم اليهودي"، غير آبهةٍ بالنكبة وبعقابيل هذا التأسيس وبالكوارث المتوازية أو المقاطعة معه والناتجة عنه، جزئيًّا على الأقل.

لا يكفي أن يكون طرفٌ ما مظلومًا، لكي يكون الحق معه، ولكي يكون على حقٍّ في كلّ ما يفعله

هذه النظرة (الغربية) الدونية إلى الفلسطينيين ومعاناتهم هي نظرةٌ لا إنسانيةٌ من حيث إنها تنزع الإنسانية عن الفلسطينيين ولا تراهم متساوين مع "بشر الدرجة الأولى" المتمتعين أو الذين يجب أن يتمتعوا بكل الحقوق الإنسانية؛ كما لا تراهم أفرادًا وإنّما مجرّد جزءٍ من قطعانٍ كبيرةٍ، يتم نزع إنسانيتها من خلال وصمها بالإرهاب والتوحش والتخلف. وإذا كانت نظريات العدالة بوصفها اعترافًا، قد سادت في الفلسفة الغربية منذ نهايات ثمانينيات القرن الماضي، فإنّ هذه النظريات تبيّن النكران والاحتقار العملي والنظري الذي تتضمنه النظرة الدونية المذكورة. وسواءٌ انطلقنا من الفكر النظري المؤسّس لمفاهيم العدالة والحق والاعتراف، أو من الواقع العملي لحالات الظلم والإنكار أو النكران والاحتقار، فإنّ الطريقين يفضيان إلى ضرورة نقد تلك النظرة، لا نقدًا خارجيًّا رافضًا ومناقضًا لمنظومة القيم الأخلاقية والسياسية الأساسية التي تدعي تلك النظرة، بحقٍّ حينًا، وبدون حقٍّ أحيانًا، وإنّما نقدًا محايثًا أو داخليًّا يتبنى تلك المنظومة، ويتأسّس عليها، ويسهم في تأسيسها، أيضًا.

ومن الناحية الثانية، إنّ كون الشعب الفلسطيني مظلومًا، في علاقته مع الاحتلال الإسرائيلي، لا يجعله على حقٍّ في كلّ ما يبدر منه، ومن الأفراد الممثلين أو المناصرين له. وغالبًا ما تكون أجواء الصراع العنيف مع الظالم هي الأجواء أو السياقات المناسبة التي تنبني عليها مظالم جديدةٍ، نتيجة التركيز على ذلك الصراع والقول بأن "لا صوت يعلو فوق صوت المعركة". وهذه هي السياسة التي اتبعها النظام السوري لعقود لتبرير السوريين وحقوقهم وحرياتهم (السياسية). وهذا ما يعاني منه الفلسطينيون، لا في مواجهة الاحتلال الإسرائيلي فحسب، بل في مواجهة تسلّط القوى والأطراف الفلسطينية التي تمتطي القضية العادلة وتستخدمها لقمع كلّ الأصوات المعارضة لها والمختلفة معها، ولتأجيل أو تسويف أو إلغاء كلّ النقاشات المتعلّقة بالحقوق والحريات المتبقية لأفراد ذلك الشعب. وقد حذر الفيلسوف الألماني، فريدريك نيتشه، وفلاسفة كثر، من أنّ المعارك الجبهية الضارية تجعل الطرفين متشابهين أو متماثلين، "في نهاية المطاف". ولهذا، ليس نادرًا أن يتحوّل الطرف الذي يواجه الوحوش إلى وحشٍ مثلها، وأن يصبح المدافع عن القضية العادلة عبئًا عليها، بقدر حمله لها وربّما أكثر بكثيرٍ غالبًا. وعلى هذا الأساس يمكن أن نفهم قول الصحافي الأميركي كريس هيدجيز، في خصوص الأحداث الأخيرة في غزة، "الفلسطينيون يتحدثون لغة العنف التي علمتهم إياها إسرائيل"، وهو ما عنون به مقالاً له في هذا الخصوص. فلا يمكن فهم ردود الأفعال بدون أن نأخذ في الحسبان الأفعال التي تثيرها وتنتجها، وليس مناسبًا أو معقولًا المطالبة بردود فعل ملائكيةٍ في ظلّ وجود ظروفٍ وأفعال شيطانيةٍ ووحشيةٍ.

الاكتفاء بالتنديد بردود الفعل بدون تحميل الأفعال الجانب الرئيس أو الأساسي من المسؤولية يصبح ظلمًا مضاعفًا ويضيف إهانةً إلى الجرح

وعلى الرغم من أنّ القول المسؤول يشير إلى مسؤولية إسرائيل عن ذلك العنف، ينبغي ألا يعني تبني القول المذكور إنكار الفاعلية الذاتية لهذا الطرف الفلسطيني أو ذاك ومسؤوليته عن أفعاله "اللاأخلاقية". فردّ الفعل هو فعلٌ أيضًا. وليس مناسبًا تسويغ الأفعال بأنها مجرّد ردود فعلٍ، إذ ينبغي لتلك الأفعال أن تحظى ببعض التسويغات "الأخلاقية" المبدئية والأولية، بغضّ النظر عن كونها ردود فعلٍ على هذا الفعل أو ذاك. وليس هناك أيّ مسوغٍ أخلاقيٍّ وسياسيٍّ، للتهديد بقتل الرهائن والأطفال، بحجّة الدفاع عن الأطفال والمستضعفين الفلسطينيين والقضية العادلة. ومثل هذه الأفعال أو ردود الفعل المتماهية مع الأفعال التي تحاربها تفقد القضية عدالتها وتجعلها ضحيةً لأنصارها بقدر كونها قضيةً لأعدائها. في هذا الخصوص ينبغي التشديد على أنّ المنع الألماني المذكور للتظاهرات المؤيدة للقضية الفلسطينية، يستند، بحقٍّ وبدونه، إلى احتمال وجود هتافات "معادية للسامية" في تلك التظاهرات. وبالفعل، ليس نادرًا أن يردّد بعض الأفراد هتافات من قبيل "خيبر خيبر يا يهود، جيش محمد سوف يعود"، على الرغم من العنصرية التي تتضمنها تلك الهتافات. والمفارقة المؤلمة هنا هي إصرار بعض المتظاهرين في كثير من التظاهرات المناصرة للقضية السورية ضد النظام/ الاحتلال الأسدي أو المناصرة للقضية الفلسطينية، ضد الاحتلال الإسرائيلي، على تلك الهتافات، غير آبهين بسوء تلك الهتافات، وبمشاركة بعض اليهود والكثير من غير المسلمين في هذه التظاهرات. في المقابل، إنّ الاكتفاء بالتنديد بردود الفعل بدون تحميل الأفعال الجانب الرئيس أو الأساسي من المسؤولية يصبح ظلمًا مضاعفًا ويضيف إهانةً إلى الجرح.

وعلى هذا الأساس ينبغي التشديد على أنّ الحق ليس معطى أو واقعةً خامًّا وإنّما هو بناءٌ نظريٌّ مرتبطٌ بممارساتٍ عمليةٍ. ولا يكفي أن نكون أصحاب "قضايا عادلة"، لنكون على حقٍّ، بل لا بد أن نتحلّى بالحد الأدنى من القوة والمعرفة والأخلاق والسياسة، لنبني حقنا في الدفاع عن تلك القضايا. وبدون ذلك، تفقد قضايانا الكثير من عدالتها، ويصبح "المظلوم" ظالمًا، لنفسه، ولغيره، أيضًا، على الأرجح.

حسام الدين درويش
حسام الدين درويش
باحث ومحاضر في الفلسفة والفكر العربي والإسلامي. يعمل باحثاً في مركز الدراسات الإنسانية للبحوث المتقدمة "علمانيات متعددة: "ما وراء الغرب، ما وراء الحداثات" في جامعة لايبزغ، ومحاضراً في قسم الدراسات الشرقية، في كلية الفلسفة، في جامعة كولونيا في ألمانيا. حائز على شهادة الدكتوراه من قسم الفلسفة في جامعة بوردو ٣ في فرنسا. صدر له عدد من الكتب والمؤلفات، وينشر باللغتين العربية والانكليزية. يعرّف عن نفسه بالقول "لكلّ إنسان صوت وبصمة، ولكلّ شيء قيمة ومعنى".