المناظرات وذهنية الضربة القاضية

المناظرات أو النزالات الفكرية وذهنية الضربة القاضية

31 مايو 2024
+ الخط -

بين الفينةِ والأخرى يتم الإعلان عمّا يُسمّى نزال القرن في الملاكمة بأوزانها المختلفة، وبوزنها ما فوق الثقيل خصوصًا. هكذا حال نزال جو فريزر ضدّ محمد علي كلاي عام 1971، ونزال تايسون فيوري وأولكسندر أوسيك عام 2024. وكذلك هو الأمر في الثقافة العربية (النخبوية) التي تُتحفنا، كلّ حينٍ وآخر، بمناظراتٍ أو بنزالاتٍ فكريةٍ تنحو نحو برنامج "الاتجاه المعاكس"، حيث يحاول كلّ طرفٍ التغلّب على الطرفِ الآخر بالضربةِ القاضية.

منذ مدّةٍ، دعا الشيخ الأزهري والمستشار الديني لرئيس الجمهورية الدكتور أسامة الأزهري إلى ما أسماه "المناظرة الكبرى"، واشترطَ أن يجتمع فيها كلّ أعضاء "مركز تكوين الفكر العربي" في جهةٍ، وهو منفردًا في جهةٍ أخرى. وأعلن أنّه، وحده، سيُناظر فيها كلّ أعضاء مركز "تكوين" مجتمعين. وقد استبق، أو استهل، الأزهري تلك المناظرة بما أسماه ﺑ"الهجوم الفكري" في بعض القضايا المُختلف عليها. لحسن الحظ أو لسوئه، لم يُكتب لهذه المناظرة النجاح في الانعقاد حتى الآن، ولم يستجب المدعوون إلى تلك المناظرة إلى تلك الدعوة، رغم أنّ فكرهم وحضورهم الفكري في المجال العام "مناظراتي" في معظمِ الأحيان. وسبق للشيخ الأزهري المتمرّس بالمناظرات عبد الله رشدي أنّ أعلن استعداده لمناظرةٍ مشابهة. فهو متمرّس بالمناظرات إلى درجة تُعطي الانطباع بعجزه عن الدخولِ في أيّ حوارٍ مع المختلفين عنه أو معه.

بدا لي أنّ تلك "المناظرة الكبرى" تشبه تلك التي جرت بين الدكتور محمد سعيد رمضان البوطي والمفكر الراحل طيّب تيزيني، والتي جرت عام 1983، وعدّها معظم "مناصرو الطرفين" آنذاك مناظرة بين النور والظلام، بين التقدّم والرجعية، بين العلم والجهل... إلخ. وتمثّل هذه الثنائية التعارضية روح المناظرة، وتبيّن طابعها الغني أيديولوجيًّا، لكن الفقير والمشوَّه معرفيًّا غالبًا. لكنني رأيت أنّ المناظرة الكبرى المذكورة كانت لتكون، على الأرجح، ولأسبابٍ كثيرةٍ، أضعف، معرفيًّا، من مناظرة البوطي وتيزيني.

على العكس من الحوار، لا تهدف المناظرة إلى الاتفاق أو الوصول إلى فهم أو تفاهمٍ متبادلين

مقارنةً بالحوار، تبدو المناظرة أقلّ قيمةً. فهي تقوم على التعارض بين طرفين، يتبنى كلّ طرفٍ توجّهًا فكريًا مختلفًا مع توجّه الطرف الثاني، ومخالفًا أو مناقضًا له، في الوقت نفسه. وعلى العكس من الحوار، لا تهدف المناظرة إلى الاتفاق أو الوصول إلى فهمٍ أو تفاهمٍ متبادلين. ولا تهدف حتى إلى الإقناع. بل تهدف، أساسًا، إلى الإفحام والانتصار على الآخر وإظهار ضعف أو تهافت أفكاره وحججه. وفي حالة الإفحام، يشعرُ المرء بعجزه عن الرد على خصمه/ مناظره. فإفحام الخصم أو إعجازه أو إظهار عجزه للآخرين هو الهدف الأساسي في المناظرة. وفي سبيل تحقيق ذلك الهدف، لا يتوانى المتناظرون، في كثيرٍ من الأحيان، عن استخدام أسوأ التطبيقات المعرفية العملية لمبدأ "الغاية تبرر الوسيلة"، مع أنّ غاياتهم نفسها لا تستطيع أن تبرّر ذاتها، فضلًا عن كونها لا تبرّر وسائلهم، وما يقومون به من اجتزاءات والتواءات وتدليس وتخبيص وافتراءات على المعرفة وتجاوزٍ لآداب النقاش وأخلاقياته وأصوله المعرفية.

المناظرة ليست سيئة بالضرورة، بل يمكن لها أن تكون إيجابيةً جدًّا، في حال التزام الأطراف المشاركة فيها بالآداب والأخلاقيات والأصول المذكورة. فبإمكان المناظرة أن تُظهر الأطروحات أو الحجج المعروضة في أنصع وأقوى صورةٍ لها، كما تمتحن وتظهر مدى متانتها وقدرتها على الصمودِ في وجهِ الانتقادات ومدى أفضليتها مقارنةً بالأطروحات والحجج المضادة لها. والمعرفة الرصينة المعاصرة عمومًا، وفي العلوم الإنسانية والاجتماعية والفلسفة خصوصًا، قائمةٌ بالدرجة الأولى على التراكم المعرفي والبناء على ما سبق استكمالًا ونقدًا. فهي تتضمّن أطروحةً ومحاججةً للتدليل على معقوليةِ أو صحةِ أو أرجحية هذه الأطروحة مقارنةً بغيرها من الأطروحات الأخرى.

فلا يكفي تقديم الحجج والقرائن أو الأدلة على صحةِ الأطروحة المتبناة، بل ينبغي، بالضرورة، أخذ الأطروحات المضادة والحجج المؤيّدة لها في الحسبان. وبالتزامها بتلك القواعد المعرفية وما يرتب بها من أصولٍ وأخلاقيات أو مبادئ معرفيةٍ وأخلاقيةٍ، تتضمّن المعرفة الرصينة أهم إيجابيات المناظرة مع محاولةِ التخفيف من سلبياتها قدر المستطاع. وفي حين أنّ الحوار مهمٌّ ومفيدٌ دائمًا عمومًا، فإنّ المناظرات ضروريةٌ ومفيدةٌ في بعض السياقات (فقط)، وذلك حين يكون المطلوب المفاضلة بين رؤيتين ومعرفةِ نقاط قوّة وضعف كلٍّ منهما.

في حين أنّ الحوار مهمٌّ ومفيدٌ دائمًا عمومًا، فإنّ المناظرات ضروريةٌ ومفيدةٌ في بعض السياقات (فقط)، وذلك حين يكون المطلوب المفاضلة بين رؤيتين ومعرفةِ نقاط قوة وضعف كلٍّ منهما

وتبدو المناظرة مناسبةً في المجالِ السياسي، لا الفكري الثقافي، خصوصًا. ففي المناظرات السياسية بين المترشحين لانتخاباتٍ رئاسيةٍ أو برلمانيةٍ ما، لا يسعى المختلفون والمنتمون إلى تيارات حزبيةٍ أو سياسيةٍ مختلفةٍ إلى التفاهم، ولا تشغلهم مطلقًا فكرة إظهار نقاط القوّة عند خصومهم أو فحص نقاط الضعف لديهم، بل يكون هدفهم عكس ذلك تمامًا. لكن تساؤلاتٍ جديّةً ينبغي طرحها عند تبني المناظرات في المجال الثقافي الشعبي العام.

ويزدادُ حضور هذه التساؤلات وإلحاحها مع تصحر المجال السياسي وخلوه أو إخلائه من التعدّدية والمناظرات السياسية الحقيقية، التي تمسّ المسائل الأساسية في ذلك المجال. وفي ظلّ هذا التصحر، وذلك الإفقار والافتقار، يجرى تسييس الثقافة، وإفقارها وجعلها مكوّنة من مثنوياتٍ أو ثنائياتٍ قطبيةٍ أيديولوجيةٍ، تسمح الدولة والأنظمة السياسية أو تشجّع على ذلك، أو تدعم أحد الأطراف المتناظرة وتقمع الطرف الآخر، بقدر ما ترى في ذلك تحقيقًا لمصالح تلك الأنظمة أو عدم مساسٍ بتلك المصالح على الأقل. في مثل تلك السياقات، لا يندر أن يحاول المتناظرون التوسّل بقوّةِ الدولة أو النظام السياسي و/ أو التوسّل لهما، لتحقيق مآربهم.

وتبدو المناظرات السائدة في الثقافةً العربية عمومًا أيديولوجيةً أكثر منها معرفيةً. وفي الأيديولوجيا، تسود المثنويات أو الثنائيات القطبية، بحيث نكون بين طرفين أحدهما يمثل قمّة الحق أو الخير أو الجمال والآخر يمثّل قمّة البطلان والشر والقبح. المعرفة، على العكس من المنظور الأيديولوجي، تتأرجح (المعرفة) تحديدًا بين هذين القطبين، من دون أن تكون قادرةً على أن تستقر في أحدهما. ويصعب على كثيرين البقاء متأرجحين، لذا يستسهلون الإقامةَ في أحد القطبين، وقذف القطب الآخر بكلِّ الحجارة والأسلحة المتوفرة. فهم لا يرون وجودهم وأمانهم وخيرهم إلا من خلال نفي الآخر وانعدامه أو إعدامه. وليس نادرًا أن يُدرك المُناظر الأيديولوجي أنّ موقفه ليس نزيهًا من الناحية المعرفية أو حتى الأخلاقية، وأنّ إرادته الأيديولوجية تجعله يتجاوز المعطيات المعرفية التي يملكها والقواعد المعرفية التي ينبغي الالتزام بها، لكنه يرى أن "الغاية تبرّر كل ذلك وغيره". وفي هذا ليس خطأ بالمعنى الديكارتي فحسب، بل قد يكون خطيئةً أيضًا.

أخشى أنّني مارست، في هذا المقال أو المقام، المناظرة والتنظير لها، مع أنّ المقال يتضمّن تحذيرًا وتنبيهًا ودعوةً إلى ضرورةِ الاحتراس من ممارسةِ ذلك وفيه. لكنّني أرد على نفسي الشكاكة والمتشكّكة، وأكرّر القول إنّ المناظرة ليست سيئة بالضرورة، بل قد تكون ضرورية وإيجابيةً أحيانًا. وبهذا المعنى، حاولت تجنّب السعي إلى "الفوز بالضربة القاضية"، بل سعيت إلى إبراز معقولية رأيي أو أرجحيته، بالنقاط فقط.

حسام الدين درويش
حسام الدين درويش
باحث ومحاضر في الفلسفة والفكر العربي والإسلامي. يعمل باحثاً في مركز الدراسات الإنسانية للبحوث المتقدمة "علمانيات متعددة: "ما وراء الغرب، ما وراء الحداثات" في جامعة لايبزغ، ومحاضراً في قسم الدراسات الشرقية، في كلية الفلسفة، في جامعة كولونيا في ألمانيا. حائز على شهادة الدكتوراه من قسم الفلسفة في جامعة بوردو ٣ في فرنسا. صدر له عدد من الكتب والمؤلفات، وينشر باللغتين العربية والانكليزية. يعرّف عن نفسه بالقول "لكلّ إنسان صوت وبصمة، ولكلّ شيء قيمة ومعنى".