التسوّق والجندر
يتذمّر أغلب الأزواج من شغفِ النساءِ بالتسوّق وانخراطهن في ثقافةِ الاستهلاك، فيرفض الواحد منهم مصاحبة زوجته في رحلةِ البحث عن فستانٍ أو حذاء.. أو يرافقها مغلوبًا على أمره، فيتخذُ مكانًا قصيّا ليترّقب ويراقب المصاريف. والواقع أنّ أصحاب هذا الرأي يتعمّدون ترسيخ الصور النمطية التي تُجَوهِر الفوارق بين الجنسين، إذ يُربط الرجل بالعمل والعقلانية والتفكير العملي والاهتمام بالجوهر والفعل.. في مقابل إظهار المرأة في صورةِ المهووسة بالعرضِ وإبرازِ مفاتن الجسد، ولا همّ لها سوى متابعةِ الموضة والإسراف.. ولذلك تُعتبر المرأة سفيهة لا تُؤتمن على إدارةِ البيت والتصرّف في الأموال لنقصان عقلها.
غير أنّ من هؤلاء الأزواج من إذا "وقع" في غرامِ امرأةٍ أخرى بات لا ينفكّ عن زيارة المحال والأسواق و"المولات" بحثًا عن هديّة تُرضي المعشوقة أو رغبةً في مرافقتها، ومعرفة ذوقها وطريقة اختيارها الملابس، مُظهرًا اهتمامًا كبيرًا بالتفاصيل: ألوانها المفضّلة، أشكال تنسيقها الملابس، تسريحة شعرها و"الإكسسوارات" التي تضعها.. فيبدو الإنفاق وجهًا من وجوه الاستمتاع بالحياة وتكون ساعات التسوّق ممتعة برفقة من هو "مغرم بها صبابة".
وإذا نظرنا إلى الموضوعِ من زاويةِ مصمّمي الإشهار والشركات الكبرى المروّجة للبضائع والمنتجات، بدا لنا أنّ أصحاب القرار يستهدفون النساء بالدرجة الأولى باعتبارهن المستهلكات اللواتي يتأثّرن بما يسمعن أو يشاهدن، وسرعان ما يصيبهن الملل، فيرغبن في إحداثِ التغيير، أو لكونهن الطعم الذي نستدرج به الرجال حتى يقبلوا على اقتناءِ سيارةٍ أو شقّة أو عطر.. وفي كلّ الحالات تتحوّل النساء إلى موضوع للسلعنة والتسويق والاستهلاك.
التسوّق هو "العذر'' المقبول اجتماعيًا حتى تخرج النساء والفتيات و"يتحررن" لبضع ساعات
ولكن للنساء وجهات نظر أخرى تختلف باختلاف السنّ والطبقة والمستوى التعليمي والوضع الاجتماعي.. فالتسوّق هو الذي سمح لهن بكسرِ الحدود بين الفضاء الداخلي والفضاء الخارجي، وبين مكان العمل والأسواق والمتاجر، وبين ثنائيات أخرى: الذكورة/الأنوثة، الإنتاج/إعادة الإنتاج، الذات/الموضوع، الأنا/العائلة.. والتسوّق هو أيضًا "العذر'' المقبول اجتماعيًا حتى تخرج النساء والفتيات و"يتحررن" لبضع ساعات.
ولئن ارتبطت ثقافة الاستهلاك في الغالب بالمُترفات اللواتي يملأن فراغهن بمتعةِ التبضّع، فإنّ عدوى الاستهلاك شملت فئات أخرى من النساء اللواتي كان يُنظر إليهن على أنّهن محصنات من لوثةِ عولمة الاستهلاك، وهو ما جعل الدَارسات ينتقدن النظام الرأسمالي والثقافة النيوليبرالية التي أبّدت تبعية النساء وروّجت لنمط ''الأنوثة الشبابية" (youthful femininity) المعتمدة على وسائل التجميل وطبّ التجميل.. وجعلت جلّ طموح النساء أن يتحوّلن إلى مؤثّراتٍ "وفاشينستات" ومروّجات للسلع والمنتوجات.
في الضجيج والاحتكاك بالناس بعض من الشعور بالمجتمعية في عالم هيمنت فيه الفردانية
قد تجد بعض النساء في زيارةِ مراكز التسوّق فرصةً للاطلاع على آخرِ صيحات الموضة، ومحاولةَ تقليدها باعتماد أقمشة مستعملة أو غير مكلفة، وقد تلوذُ أخريات بهذه الأمكنة المُكيّفة في ساعاتِ الحرّ طلبًا للراحة قبل العودة إلى البيت واستئناف الواجبات الرعائية، وقد تزور أخريات الأسواق لكسرِ الرتابة وتجاوز محنة الوحدة والشعور بالفقد، وبحثًا عن رفيقٍ ومُؤنس. ففي الضجيج والاحتكاك بالناس بعض من الشعور بالمجتمعية في عالم هيمنت فيه الفردانية، وقد يكون تردّد أخريات على المحال عملية مرهقة ومؤلمة بعد أن أُجبرن على إعالةِ أسرهن والتصرّف في المال على قدرِ الاستطاعة.
إنّ حضور النساء في أماكن التسوّق لا يعكس بالضرورة تأثّر النساء، على اختلافِ أعمارهن، بثقافةِ الاستهلاك وخضوعهن للقيم المهيمنة واهتمامهن بالذاتِ وسوء تصرّفهن في المال والوقت، وهروبهن من المنزل/الفضاء الخاصّ ومزاحمتهن الرجال. فهذه الأمكنة تعجّ بنساءٍ مختلفات من حيث السلوك والوعي.. وأنماط من الرجال لهم مآرب متعدّدة من الحضور في أمكنةٍ تستهدف المولعين بثقافةِ الاستهلاك، قد تلتقي مع ما تريده بعض النساء وقد تختلف.
شغفُ فئةٍ من الرجال (كالفنانين والمؤثرين و..) بالموضة واهتمامهم بجمالِ المظهر ورعاية الجسد ومواد التجميل وعمليات التجميل وتردّدهم على فضاءاتِ التسوّق لا يعرّضهم لتهمةِ نقصان العقل والسفه والوصم، بل هي علامة على الثراء والذوق الرفيع ومواكبة العصر والشباب المتجدّد..