بكاء الرجال
يصنّف المجتمع الأهواء (كالغضب والغيرة والرغبة في الانتقام وغيرها من الأحاسيس) وأشكال التعبير عن المشاعر حسب الجنس ويجعلها متلائمة مع النظام الثنائي المتضاد: رجل/امرأة، أنثى/ذكر، فوق/تحت، عقل/عاطفة... ويسهر المشرفون/ات على التنشئة الاجتماعية على أن يمتثل كلّ فرد للتوقعات الجندرية. فيغدو بكاء النساء مقبولًا اجتماعيًا لأنّه يُجوهر الاختلاف بين الجنسين، ويبرهن، في الوقت ذاته، على ضعف المرأة وعدم قدرتها على التحكّم في انفعالاتها.
وفي المقابل يُمنع الصبيّ من التعبير عن المشاعر الدالة على الخوف أو العجز أو الانكسار وغيرها من الصفات التي تنسبها الثقافة للنساء، فيقال له: ''لا تبكِ فأنت رجل''، ''لا تبكِ فإنّ بكاء الرجال الصناديد عار وشنار''. ولذا يواجه كلّ مخالف بعقوبة الوصم فيعيّر بأنّه "امرأة" ما دامت المرأة في التصوّر الجمعيّ أقلّ قيمة من الرجل.
ويتعيّن على كلّ من أراد أن يثبت رجولته أن يعرف متى يبكي وأين؟ وأن يُحكم كبت رغبته في البكاء إذ لا يجوز للرجل أن ينتحب أمام الآخرين أو أن يرثي امرأة أو يعبّر عن ألم الفقد في العلن بل إنّ عليه أن يظهر قدرته على التحمّل وضبط النفس وعقلنة الحدث حتى يحافظ على مكانته بين الرجال.
وهكذا تتأسّس الفروق بين الجنسين: فالمرأة تبكي متى شاءت وفي أيّ مكان أمّا الرجل فإنّ عليه أن يتوارى عن عيون الناس ويتّخذ مكانًا قصيًّا للتنفيس عن مشاعره، وحبّذا لو أجهش بالبكاء ليلًا إذ ''الليل ستّار العيوب".
ثمة فئة من الرجال تصالحوا مع ذواتهم وعبّروا عن مشاعر النصر والفرح والقهر والأسى بكلّ حرّية
ولمّا كان الجندر بناءً اجتماعيّا مرتبطًا بمختلف السياقات وخاضعًا للتحوّلات فإنّ طرائق التعبير عن المشاعر والرغبات قد تغيّرت فصارت فئة من النساء أكثر قدرة على التحكّم في الرغبة في البكاء حتى يتماهين مع المعايير الذكورية السائدة في أماكن العلم والعمل، وأدركت أخريات أنّ إثبات الذات لا يكون باستجداء العطف وذرف الدموع بل بالكدّ واكتساب المعرفة والمهارات.
وفي السياق نفسه انتبهت فئة من الرجال إلى أنّ البكاء تفاعلات كيميائية تأتي استجابة لحاجة نفسية وهو مفيد للصحّة فتصالحوا مع ذواتهم وعبّروا عن مشاعر النصر والفرح والقهر والأسى بكلّ حرّية فانهمرت دموعهم مدرارا أمام النساء وفي الفضاء العامّ.
وتعلّم رهط من رجال السياسة فوائد الشكوى وذرف الدموع فأتقنوا البكاء على الركح وتمكّنوا من التأثير في الجمهور فجعلوه يتعاطف ويتضامن معهم. كما أنّهم استعملوا البكاء لضرب الخصوم وكسب أصوات الناخبين أو الإفلات من المساءلة والمحاسبة. فكان بكاء السياسيين أو من هم في مواقع صنع القرار واستحواذهم على الصفات التي تُنسب إلى النساء وتوظيفها في مجالات مختلفة (كإدارة الأعمال)، في الغالب، وظيفيّا. وهم لا يرون أنّ هذا الأمر يقلّل من شأنهم ماداموا يعرفون متى يستوعبون الصفات الأنثويّة ومتى يتخلّصون منها بدعوى أنّها مُشينة.
تعلّم رهط من رجال السياسة فوائد الشكوى وذرف الدموع فأتقنوا البكاء على الركح وتمكّنوا من التأثير في الجمهور
ولا يختلف الأمر بالنسبة إلى ممارسي الهيمنة الذكورية فهم يوظفون البكاء لمواجهة النسويات. فيكون البكاء، في مثل هذه الحالة، استراتيجيًا لسحب البساط من تحت الحركة النسوية المؤثرة. ويكشف هذا السلوك عن مدى تمكّن الحركات النسوية من إرباك فئةٍ من الرجال إلى درجة أنّ هؤلاء باتوا يتوخّون طرقًا مختلفة للمواجهة والدفاع عن امتيازاتهم وتمركزهم الذكوري. وكلّما مارست النسويات الضغط بحث هؤلاء عن أدوات جديدة للمقاومة الذكورية.
يختلف البكاء من فئةٍ إلى أخرى ويساهم في إرساء التراتبيات بين الجنسين من جهةٍ، وبين الرجال من جهةٍ أخرى، إذ ثمّة اختلاف بين بكاء الفحول وبكاء المخنّثين والمثليين... ويسيّج البكاء بمحدّدات الجندر والسنّ والطبقة والعرق والإعاقة والمستوى الثقافي... فتتنوّع التجارب وتصنّف. فيكون بكاء التوّابين تطهيرًا للنفوس وطلبًا للمغفرة، ويكون بكاء الرجال المعادين للنسويات استراتيجية لكسب فئةٍ من النساء اللواتي يعسر عليهم التوصّل إليهنّ والحصول على أصواتهنّ ومساندتهن إن أفصحوا عن كرههم للنساء، ويكون بكاء من تبطش بهم/هنّ النيوليبرالية المتقاطعة مع البطريكية بكاء من عاش القهر وتحكّمت فيه مختلف بنى الهيمنة فأذلّته، ويكون نحيب من احتّلت أوطانهم وقتل أهلهم ونحر أطفالهم ودكّت مستشفياتهم ومدارسهم وبيوتهم وأبيدوا وهجّروا أمام أنظار العالم آخر صوت يسمع قبيل الاستشهاد.