اعتذارٌ إلى أمهاتنا جميعاً
ربما لم يسعفنا الوقت ليقول بعضنا هذا، وربما حالت الأقدار بين الاعتذار المستحق، وربما كان البعض في طريقهم إلى البريد لكن ملك الموت كان أقرب، وربما انتهت الدنيا فجأةً، وغادرت الشموس أماكنها للأبد من حيوات البعض، قبل أن يقولوا أهم ما يريدون قوله بشكل مفاجئ، لم يريدوا تأجيل كلماتهم، وإنما كانت الدنيا هي من تأخذهم كلّ يومٍ في دوامة جديدة، يعودون منها غرقى، لا يريدون إلا التنفس والاندثار في نوم عميق.
اعتذار لأننا قد لا نكون معاً طوال الوقت، ربما يفصل بيننا وبينكنّ الآن ساعات دوام طويلة، أو سفر كان بتذكرة ذهاب من دون عودة، أو قارب صدئ للهجرة غير الشرعية عبر مياه المتوسط، أو طائرة أقلّتنا وأخلفتنا موعد الرجوع، أو سجنٍ لا يشعر سجانه إلا بأمه وحده، أو ربما تكرهه، حين ترى وجوه الأمهات الأخريات ينتظرن عشر ساعات كلّ أسبوعين من أجل زيارةٍ يتيمة محتملة، قد تُلغى في معظم الأحيان، أو يفصل بيننا الآن طينٌ، وصبّار، وسورة يس، ودعوات ممزوجة بالدمع فوق قبرٍ ضمّنا نحن أولًا.
اعتذارٌ عن كلّ ساعةٍ وقفتِ فيها في المطبخ وحدك، تعدّين الطعام كلّ وجبةٍ، وكلّ نهارٍ، وكلّ يوم، وكلّ ليلةٍ، وكلّ شهر، وكلّ فصلٍ، وكلّ عام، وكلّ مرحلةٍ، وكلّ عقدٍ، حتى تشققت قدماك، ولم يشعر بهما أحد، لأنك كنتِ واقفةٍ طوال الوقت، لا تبدين من علامات التعب أدناها، حتى لا نشفق عليك بدافع الحب ونمنعك من ممارسات هوايتك المفضلة، وهي غرس أنفاسك في أجوافنا الصغيرة.
اعتذارٌ على كلّ وقفةٍ طويلةٍ أمام المواعين رغم حبّك للجلوس أكثر، وكلّ استيقاظ مبكرٍ من أجل المدارس رغم حبك للنوم أكثر، وكلّ شقاءٍ في تربيتنا رغم حبّك للراحة أكثر، وكلّ حملك لمسؤوليتنا رغم أنّ اللامبالاة أوفر، ولكنكِ كنت تؤثريننا على نفسك منذ أول لحظة صرخنا فيها بالحياة، وقد اخترتِ صفنا منذ ذلك الوقت، وإلى الأبد.
اعتذارٌ لأننا لم نكن مؤدبين كفاية دائماً، كنّا نرفع أصواتنا أحيانًا، ونلوّح بأيدينا كثيرًا، ونقول ما يجرحك أكثر، لأننا لم نكن نعرف معنى الأمومة وقتها، وإنما كانت تتشكل "الأنا" في داخلنا، حتى استطعتِ (بقدرة قادر) أن تعرفينا معنى "الآخرين"، وكيف نكون نحن من أجلهم أكثر، لا من أجل أنفسنا الفانية على الدوام.
كنت تؤثريننا على نفسك منذ أول لحظة صرخنا فيها بالحياة، وقد اخترتِ صفنا منذ ذلك الوقت، وإلى الأبد
اعتذارٌ لأننا لم نقل "شكرًا"، و"أحبك"، و"اشتقتُ إليك"، و"أنت أعظم أم في الدنيا"، و"أنت أجمل الجميلات"، و"أنت أحلى سيدات الكون"...، في الوقت المناسب، وفي كلّ لحظة ضعفٍ احتجت فيها إلى كلمة تقوّيك من جديد، أجل قد نكون قلناها ولكن متأخرًا، بعدما فات معظم العمر جافًّا، وتركنا فيه فمك يشعر بالمرارة دون حلاوة تبلّ ريقك الظمآن.
اعتذارٌ على كلّ مرةٍ أقلقناك فيها، ثم استنكرنا قلقك؛ كثيرٌ منا الآن صاروا آباءً وأمهات، وباتوا يعرفون معنى القلق على الأبناء، وكيف كنتِ محقةً في السهر حتى نعود، وكم كنتِ خارقةً حين تشعرين بما لا نبوح به، وكيف لا تعني لك المسافات شيئًا، فكلّ حدث يصلك في الميعاد والمكان من دون تأخير.
اعتذارٌ على غدر الزمان مع كثيرين منا، فكبرنا بعيدين عن عينيك، وربما نبت لنا شاربٌ أو لحية، أو وجدت ابنةٌ لك زوجًا، أو أقيم عُرس لأكبر أبنائك من دون حضورك، بسبب ظلم المطارات والحدود والأوراق والسياسة، لكن هذا كله لم يكن في الحسبان، ولم يكن بأيدينا يوماً، وإنما الذي نملكه ونحن صفر اليدين أن نقول "عذراً".
فإلى أمهاتنا جميعًا، الجميلات، البارّات بأبنائهن، اللواتي يفهمن الحبّ جيدًا، وربّين بإحسان، وكنّ أمهات صالحات غير مؤذيات بأي شكلٍ لفلذات أكبادهن.. عذراً، لأننا لم نقل "شكراً"، بما فيه الكفاية.