ابن عربي وسبينوزا وحوار التنوير
لم يتعبني أبداً هذا المسير، ولا المخاض العسير. لم ترهقني المسافات البعيدة، ولم تصدّني الرياح المعاكسة. لكنني أقف هنا قليلاً كي أتأملَ حجارة هذا الدرب الطويل. هل يُفضي هذا الدرب إلى بحرٍ يا ترى؟ هل يعرف اسمي أم أنني مجرّد عابر سبيل في ثناياه المرهقة؟
هذا الدرب، مرصوفة حجارته كأروقة التاريخ ويتسرّب من بين توليبها عرق الذاكرة. إنهم الأجداد مرّوا ذات يوم من هنا، بنوا هذه المدينة على مهل ورحلوا على عجل بعدها. شيّدوا بنيانها بعظامهم، زيّنوا شوارعها بأرواحهم وأشبعوا جوعها من أكبادهم.
أتأمل مليّاً بالدرب مرّة أخرى، فأرى بحراً، وأرى في حجارته أمواجاً غاضبة. لم تكن هذه المدينة يوماً هكذا، لكن حاضرها ارتشف ماضيها على مهل. هذي المدينة لا تشبه اليوم شيئا سوى نفسها.
يقف بجانبي الفيلسوف الهولندي، باروخ سبينوزا، مقاطعاً صمتي: ما الذي جاء بك إلى هنا يا صديقي؟
- لا أدري! جئت مثلك تائهاً، هارباً من محاكم التفتيش، أو ربما إنه القدر حطّ حمالي هنا لسبب يجهله كلانا.
- وماذا فعلت كي تلاحقك محاكم التفتيش؟
- أدنتُ بدينٍ غير العبث الذي يدينون به. لم أكن وحدوياً ولا تحرّرياً بما يكفي ولا حتى اشتراكيا.
- هل تحمل معك شيئاً لي من كنوز تلك المدينة البعيدة؟
- نعم، أحمل معي أطيب ثمارها وأغلى نفائسها. جلبت لك معي خمس إجابات من الشيخ الأكبر محيى الدين بن عربي، وبالمقابل لديّ سؤال واحد.
- هات الإجابات الخمس واحدةً تلو الأخرى بالترتيب كما حمّلك إياها ابن عربي.
لم تكن هذه المدينة يوماً هكذا، لكن حاضرها ارتشف ماضيها على مهل
يقول لك ابن عربي في الإجابة الأولى: "الروح أصل والجسد ظل"، وفي الثانية "الكون انعكاس، والانعكاس ظل لما هو أصل"، وفي الثالثة "الدين طقس والطقس عقل. الإيمان غيب والغيب قلب"، وفي الرابعة "القلب معرفة والعقل علم، ومتى غابت المعرفة يصاب العقل بالعقم"، وفي الخامسة "الحق أصل والأصل نور، ولا وجود لغير النور إلا بالنور".
يبتسم سبينوزا: إذا التقيت ابن عربي ستحمل له مني أيضاً ردوداً خمسةً على إجاباته.
الرد الأول: الروح وجود والجسد حدود.
الرد الثاني: الكون جوهر وما سواه مادة، ولا يعيب الجوهر إن فسدت المادة.
الرد الثالث: لكلّ شيء في هذا الكون قانون، فلا يتحرّك متحرّك ولا يسكن ساكن إلا بقانون. ووراء كلّ قانون سبب، ووراء كلّ الأسباب علّة واحدة.
الرد الرابع: العقل والقلب آيتان من آياته، إحداها فكر والأخرى امتداد لهذا الفكر. لا يُدرك الفكر إلا بامتداده.
الرد الخامس: الطبيعة والحق أصلان متلازمان ولا يُعرف أحدهما إلا بمعرفة الآخر.
"هذه إجاباتي لابن عربي" يضيف سبينوزا: "أما الآن فقد جاء دورك. هات سؤالك يا حسن!"
أضع القلم من يدي وأسأله: هل يستحق هذا الحاضر ماضيه يا سبينوزا؟
يرمقني بنظرة ساخطة، يصمت للحظات، يقترب مني ويقرأ ما كتبت، ثم يقول: هل ستعود إلى دمشق؟
- يوماً ما. أجبت.
- وأيّ الطرق ستسلك حينها يا حسن؟
- طريق أثينا مرورا بالأندلس.
- إذاً ستجد الإجابة بنفسك يا صديقي.
- هل من نصيحة أخيرة لي اليوم يا سبينوزا؟
- ارتدِ معطفاً سميكا فالطقس متقلّب في هذه المدينة...