"متلازمة أبو مازن" (2 - 2)

03 أكتوبر 2022
+ الخط -

كنت أتمنى ألا أكمل الجزء الثاني هذا، وأن تنفد كلماتي في الحديث عن متلازمة أبو مازن، لكن يا لأسفي وجرحي، فالمصابون بها أكثر مما خطيت وسأخط..

المتلازمة تلك امتدت إلى دول عربية تنصّلت العروبة منها حين تمادت في خيانتها، لا وبل باتت تعتقل أبناءها بتهم معلّبة لا تدين سوى من أصدرها بحق شبان لم يتبعوا سوى صوت الحق الذي يعلو في ضمائرهم حين ناهضوا التطبيع مع الكيان الصهيوني، وهم يصرخون وقلوبهم تدمى: "بلادي وما آمنت بها من حب، تراود محتلاً على سفارة بوهم دولتهم، وتأتينا كل يوم بوضيع يدنس أرض أبنائي، وتفتح لهم الأبواب، لتمتد الأيادي وتسقط الصحف وتجف الأقلام ذلاً، هلموا هلموا يا قادة، اليوم يوم الذل الأكبر، قدموا قربان خنوعكم واقتربوا من عدوكم ودعونا نمضي حيث درب الأحرار الذي تقف أمامنا لعبوره حدود رسمها لكم الاستعمار، نحن نريد فقط تحرير ذواتنا، وإن كان ثمن الحرية تلك أيام فانية نقضيها في زنازينكم".

وهنا الحديث يطول عن هذه الدول المطبّعة التي تنصب لأبنائها محاكمة عنوانها "معادة إسرائيل" تارة و"محاولة تنفيذ عملية إرهابية ضد دولة شقيقة" تارة أخرى، فلكل دولة من هؤلاء حكاية عشرة مع الذل لا تنتهي، لذلك سأنتقل الآن إلى المصابين الآخرين بمتلازمة أبو مازن، منهم شباب رأى في الانبطاح ملاذاً كونه لم تجمعه صدفة مع الكرامة يوماً ما وأخطرهم دخلاء على مهنة الصحافة التي يجهلونها.

هؤلاء الذين يحاولون دس السم في عسل الكلمات المنمّقة حين يتحدثون عن فلسطين، ولكي لا يُفتضح أمرهم، ينشرون سمهم هنا وهناك فيجتزئون حقائق ويدحضون أخرى، ثم يزعمون حبهم لفلسطين وهم يبرئون العدو من دم ضحايا مجزرة صبرا وشاتيلا تارة، ومن قصف غزة تارة أخرى، والأدهى الحديث عن نكبة فلسطين بأنها "عيد لاستقلال إسرائيل" ودون ذرة خجل يتحدثون عن "احتفالاتها"، وكأنها "دولة شقيقة"، وكأن هذا التاريخ لا يتزامن مع تشريد وقتل شعب، وسلب منزله وذكرياته وصوره وحاضره ومستقبله وفرحه واغتصاب أرضه وعرضه..

أقول إلى المصابين بمتلازمة أبو مازن؛ فلسطين لا تغفر لمن خانها

وحتى الشهداء لم يسلموا من هؤلاء، فهم يحاولون طمس حتى لقب شهيد واستبداله بـ "قتيل" لإشباع شغفهم بالخيانة، متناسين أن الشهيد لا ينتظر مدحاً من منبطح، ولأن ما أعرفه عنهم كثير والمقال لا يحتمل منحهم أهمية، سأنتقل إلى ادعائهم في تبرير ما يقترفونه بثقافة عارمة لا نعرفها، وما هي إلا وهم كدولة احتلال، حيث ابتدعوها وربوها في عقولهم لخدمة عدو الأمة الأزلي، ولو فُتح المجال أكثر ربما سيزعمون "حقائق" تقول إن الصهاينة لم يحتلوا فلسطين، وأننا نتوهم استعماره كما جرائمه التي يرتكبها بحق الشعب الفلسطيني، لا وبل ينحازون إلى الاحتلال الاستيطاني ضد دول يرونها "ظالمة" لعدائها للإمبريالية والاحتلال ليستغلوا أي واقعة مرتبطة بذلك ليصفوا كلماتهم المسرطنة ضدها كخدمة مجانية للصهيونية!

وفي نهاية اليوم يذهب أولئك يزعمون في المجالس أنهم مع المقاومة ضد العدو الصهيوني في فلسطين ولبنان، وعندما يعودون إلى مكاتبهم يبحثون خلسة عن فرصة عمل في إعلام الاحتلال ومؤيديه!

ولأن الحديث عن بشاعة مواقف الخيانة ينغص على قلمي، سأخضع له وسأنتقل فوراً إلى النهاية، وأقول إلى المصابين بمتلازمة أبو مازن؛ فلسطين لا تغفر لمن خانها، كما مقاومتها التي تضم في صفوفها أبطالاً متجذرين في الأرض يصونون شرف الأمة وعزتها، ولن يهدأ بالهم حتى دحر المحتل من التراب الفلسطيني بأكمله، والخائن سواء كان قائداً أم حتى قلماً سفيهاً لا يعري سوى نفسه، وهو يسقط شيئاً فشيئاً.. وحتى لحزننا ودموعنا ووجعنا وشتاتنا ثأر سننتزعه حين يتجرّع العدو وعملاؤه مرارة الكأس ذاته من ألمنا الذي أخذ يكبر ويكبر، حتى أصبح قوة تزين بها المقاومون الذين حبكوا للمحتل خططاً لم يسبق له أن شاهدها في أفلام سوى تلك التي اتسمت برعبه في أرضنا..

وأخيراً وليس آخراً، حكايات الانبطاح تلك جعلتني من حيث لا أدري أستذكر الشاعر الراحل خليل حاوي الذي لم يقوَ على مشهد اجتياح العدو الصهيوني لبنان في ثمانينيات القرن الماضي، وسقطت كلماته حين "افتضحت قصيدته"، كما قال درويش، ليطلق الحاوي الرصاص على نفسه ويقرر الانتحار لرفضه حياة يدنس بها العدو شرف بيروت الجميلة وسط منبطحين عربان، كان يوقن بحدسه أنهم سيشاركون العدو في جرائمه بعد انتحاره بأشهر قليلة في مجزرة هي الأشد ضراوة وفُجراً في صبرا وشاتيلا، والتي ارتكبتها مليشيات لبنانية مسلحة بمشاركة العدو الصهيوني.

وربما أبلغ كلام هنا ما خطه محمود درويش في رثائه للحاوي.. "الشاعر افتُضحت قصيدته تماماً (..) فنامَ، لا يستطيع الصوت أن يعلو على الغارات في هذا المدى لكنه يُصغي لموجته الخصوصيَّة: موتٌ وحرية يصغي لموجتِه ويفتح وقته لجنونه من حقِّه أن يُجلس السأم الملازم فوق مائدة، ويشرب قهوة معه إذا ابتعد الندامى الشاعر افتُضحت قصيدته تماماً.. بيروتُ تخرج من قصيدته وتدخل خوذة المحتل (..) وماذا بعد وقوع بيروت في الحصار"..

وربما لو كانت قصيدته ليومنا هذا لقال عناصر أمن افتُضِحت حقيقة أمنهم ودخلاء وكتاب تمادوا في انبطاحهم "ودخلوا خوذة المحتل"، والخيانة اخترقت بلاد كانت للعرب أوطان وافتضحوا، لذلك قرر الشرفاء أن يناموا شهداء، فماذا بعد اغتصاب فلسطين لليوم. وماذا بعد استباحة مقدساتنا؟ وماذا بعد استشهاد الطفل المطارد ريان وهو يعيد إلى مسامعنا صرخات كل أطفال فلسطين الذين ناموا ليتملّصوا من فضيحتنا؟

هبة أبو طه .. فلسطين
هبة أبو طه
صحفية أردنية من أصول فلسطينية متخصّصة في مجال التحقيقات الإستقصائية ومدونة. تحلم بأن "تكتب لفلسطين بالدم" كما أوصى غسان كنفاني.