عام مكلّل بالمقاومة ورفض التطبيع
طربٌ وغبطة، أصواتٌ تتعالى، وضجر بداخلي يُطلق حزناً يكويني، رغم بشائر تحمل فرحاً يتناثر حولي، لكني لا أراها، بل أرى أقماراً تُضيء عتمة ليلة طغى عليها الظلام رغم إنارة اصطناعية حادة. أغادر تلك المساحة المكانية التي كانت تحتضن احتفالاً بعام جديد، وأنا أحتضن حزني، وأهرول حيث يشعّ ضوء تلك الأقمار، لعلي ألحق بطيفها، وثمّة بركان غضب يشتعل داخلي ويبعث غازات يود لو يُلقيها على رؤوس بني صهيون، أحاول، جاهدة، إخماد ذلك البركان الذي يثور داخلي منذ أن تسلّلتُ من رحم أمي إلى تلك الدنيا.
وبينما أسير ويزدحم ذهني بهذياني وأسئلتي بشأن ما يقولون إنها عدالة؛ أجد ضوء الأقمار يسطع ويسطع، ويشكل جدارية بزاوية مزيّنة بصورهم، أراهم، أتأملهم، أطربُ بأغاني تحملُ أسماءهم وأمجدهم، ثم أصمُت وألعن عجزي، وأنا أسمع كلماتهم تدوّي من حولي، وروايات نضالهم وتواريخ استشهادهم أبصرها تُعلّق على ستار القدس الشريف بمعلّقات عجز خيال شعراء الجاهلية الجهابذة المتضلّعين ببحور من الثقافة، وملكات كتابة لا تنتهي؛ بأن تأتي بمثل حكايات أبطال كأقمار البلاد الطاهرة، فلسطيننا، تلك التي لا تودع عاماً وتحتفل بآخر قادماً، أسوة بهذا العالم المنبطح، إنما تجدها تخشى من أن يخطف العام القادم أبناءها كالذي مضى وانصرم، ففي عام 2022 وحده، قدّمت قرباناً لحريتها أكثر من 230 شهيداً تعدُّ أسماؤهم مع آلاف سبقوهم بأعوام، أعوام لم تطوِها وهي تصوّب أنظارها إلى السماء تكويها الآلام وولع الاشتياق، فتسمعهم ينادون عليها، وتبتسم حيث تراهم أقماراً، مدججين بأسلحتهم، يقفون حتى في الفردوس حرّاساً لثراها.
على أرضها، تتمدّد فلسطين في دولتها كاملة لا شريك لها، بينما زخات رصاص المقاومة تُمطرُ أنفة وشرفاً وهي تُريق دماء العدو، وتعود الرصاصات لتقف إجلالاً لها وتكملُ مقاومتها لتنقش ابتسامتها، وهي تُهديها انتزاع ثأر شهدائها/ أقمارها ثأراً تلو الآخر في عامٍ استهلته طلقاتهم وختمته طلقات الإباء ذاتها؛ وجعلته ينتهي كما بدأ بأرضها، وهو مكلّل بانتصارات أسودها وعمليات أبطالها الفدائية ودمائهم التي فاضت طهارة وكرامة على الكون، حين رآهم كيف ينزلون على الصهيوني المحتل زلزالهم ويحرّكون كيانه وهم ينفضوه عن أراضيهم المغتصبة، معلنين تحريرها لدقائق.. لساعات لا يهم؛ فإيمانهم قطعي بأنّ خلفهم أسوداً سيكملون إزاحته عن كلّ الكون.
وبما أنني تطرّقت إلى الكون تأخذني الكلمات هنا إلى لعنة ألقيها على المطبعين مع المحتل الصهيوني الوضيع، فطعنة القريب تدمي القلب، وإن كان اعتاد على تلقي الطعنات منهم على امتداد التاريخ، لكنه يعود ليعيش الصدمة، وكأنّ الخيانة الأولى بدأت الآن وليس منذ عقود مضت، فإنّ هؤلاء أنهوا مرحلة السقوط في أدنى القاع، واليوم يقبعون، بما هو أدنى من أدنى ذلك القاع الغارق في وحل الخيانة.
يقبع المطبعون مع الكيان الصهيوني، بما هو أدنى من أدنى القاع الغارق في وحل الخيانة
ويا ليت، ونحن على أعتاب رحيل هذا العام ترحل معه مشاهد التطبيع مع المحتل؛ من أولها حتى آخرها في نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي، حين عقد مؤتمر قمة المناخ الذي أبرم به مسؤولون أردنيون اتفاقية "الطاقة مقابل المياه" بذريعة افتقار البلاد للمياه، تلك المياه التي ما زال يسرقها الكيان الصهيوني من الأردن بقبولٍ من المسروق امتثالاً لوادي عربة وتبعاتها المذلة. والعجبُ العجاب في زمان العجائب هذا؛ شراء مياه مسروقة بعد الغاز من فلسطين المحتلة من سارقها ومغتصبها، مقابل "إنشاء محطة توليد للكهرباء" على الأرض الأردنية لصالح الاحتلال بتمويل إماراتي يضاعف ويلات التطبيع مع مغتصب العروبة.
في وقت تتكدّس به حتى اللقطات التوثيقية لخيانة البعض على مرأى العالم بعرضٍ بخيس، وأمام تلك اللقطات أبصرُ الدماء تفيض في بحور الوطن العربي تُحيي الصامدين والشعوب التي تبغض خيانة التطبيع، وتذرف دمعها غضباً حين ترى أعلام العدو تُدنّس أراضيها، فتصدح برفضها لتجدها خلف القضبان، إن طالبت بإسقاط اتفاقية غدر مع الكيان الصهيوني تارة، أو إن صرخت بأنّ "الدم ما بيصير مي" "والدم ما بيصير غاز" تارة أخرى.
وأخيراً وليس آخراً، تمضي الدماء في دروبها حرّة متحرّرة من عار المطبعين والانبطاحيين، غير آبهة بمن يدركون أنّ من يتوددون له، يداه ملطخة بدماء العرب في فلسطين، وعلى امتداد بلاد الشام، من الأردن حتى سورية فلبنان الذي لم يخوننا جنوبه يوماً.