شهداء بانتظار شهداء... والمهر بندقية (2 من 2)
لم يكُن قد اكتمل دوران الأرض ليوم واحد حتى سبقته فاجعته وفاجعة الأيام التي تليه، وكأنّ لا محور لها تدور حوله سوى بلادنا، التي لم تكُن قد استيقظت من آلام الأيام التي كابدتها وهي تكفكف الدمع ذاته الذي ما زالت تذرفه منذ أكثر من سبعة عقود على رحيل أبطال فارقت أجسادهم ثراها، وأطفأت أرواحهم المتجذرة في ضلوعها نار الشوق لأزير رصاصهم.
رصاصهم الذي ما زال يدوّي، مجدّداً القسم بالوفاء لطُهر ثراها، وهو يتعانق مع بنادق مقاوميها مُطارِدين العدو، الذي أقدم على جريمة اغتيال خسيسة كحال كيانه، في فجر 14 يناير/ كانون الثاني بحق عز الدين حمامرة وأمجد خليلية؛ حيث كمن المحتل للبطلين اللذين فاجآه بكمين أعدّاه لجنوده مسبقاً، فأخذا يغرقانهم بالرصاص حين اقتربوا من مدخل "جبع"، ليستنجدوا بتعزيزات عسكرية لملاحقة الشهيدين اللذين كان العدو يخطّط منذ أشهر لاغتيالهما، فلاحقتهما قطعان جنوده، إذ صدموا مركبة البطلين وهم يطلقون نيرانهم الخبيثة صوبها.
وفي تلك اللحظات كان الشهيد المقاوم كامل علاونة يصدّ مع أمجد وعز الدين هجمات المحتل، وهما يسارعان بالالتحاق بركب رفيق دربهما "كامل"، حيث بعد دقائق كان يعتلي السماء عائداً إليها، ولم يبصراه، فجعلا دمهم يسيل، ويطّهر أرض جنين من "جبع" حتى "الفندقومية" تارة، وإلى عناق كامل ورفاق الكفاح في السماء تارة أخرى.
وحينها كان العدو يرتجفُ تخترقه الطلقات ولا يراها، فيطلق مزيداً من الرصاص نحو الشهيدين ومركبتهما، ليتمكن من اعتقالهما وهما يحطمان قيده حتى بارتقائهما، فيعود ليعتقل سلاحاً كان برفقتهما، سلاحاً لم يخُن الرجال حتى وإن اعتقله العدو.
يبقى السلاح رفيق درب المقاومين، وأكثر مما نظن، ولا تفسير هنا أبلغ من دبلة الخطوبة التي علّقها عز الدين على سلاحه، وأشار إليها قائلاً "أنا عريس البندقية" حين سألته والدته الصابرة "متى راح تتزوج يما" ليُضيف على ذلك "أنا بدي أتزوج الوطن، أنا بدي فلسطين"، وهكذا كان حال لسان أمجد الذي لم يفترق هو وعز منذ طفولتهما حين تعاهدا على سلوك درب النضال ومقاومة المحتل، حتى وهما يلفظا آخر أنفاسهما على الأرض.
علّق الشهيد عز الدين دبلة الخطوبة على سلاحه، وأشار إليها قائلاً "أنا عريس البندقية" حين سألته والدته الصابرة "متى راح تتزوج يما" ليُضيف على ذلك "أنا بدي أتزوج الوطن، أنا بدي فلسطين"
خلال ذلك كان يزن الجعبري الذي ارتقى قبل عز وأمجد بساعات، ينتظر وصول البطلين، حيث المقاوم القائد جميل العموري كان بانتظارهم في الفردوس، فقد رتب يزن اللقاء الجميل مع المقاوم الجميل خلال الأيام العشرة التي قضاها في الأرض إثر إصابته برصاص الغدر الصهيوني حين اقتحم بلدة كفردان، قبل استشهاده.
وبعد ذلك بساعات، نفذ المحتل إعداماً ميدانياً بدم بارد، كعادته الإجرامية، بحق الأربعيني أحمد كحلة، زاعماً أنه أراد تنفيذ عملية طعن، ويا ليته أرادها، وأسقط جنداً من كيانهم ليشفي شيئاً من غليلنا. وعلى الفور نشرت مقاطع توثق إعدام الشهيد، حيث ألقى حاجز مغتصب طيّار شرقي رام اللّه قنبلة صوتية صوب مركبته، وأطلقوا عليه رذاذ الفلفل والغاز، فردّ عليهم ونشب شجار بين أحمد الأعزل والجنود المدججين بالسلاح، لينتهي الأمر بإعدامه ميدانياً.
والأدهى من ذلك ما خرجت به ثلّة من الكيان تُدعى جيشاً عقب تسريب مقاطع الجريمة، بكل وقاحة قائلين "بأنه لم يكُن هناك داعٍ لقتل أحمد"، وكأنّ هذا الكيان الذي لا داعي لوجوده أساساً، والذي ما زال يتعرّى بفضائحه وإرهابه منذ عقود، لا يُدرك أنه أقبح مجرم عرفه التاريخ البشري، والإرهاب بعينه.
في أثناء ذلك، كان الفتى عمرو الخمور يتبادل أطراف الحديث مع أقرانه وعائلته، حيث مخيم الثوار دهيشة في بيت لحم، وهو يستذكر رفاقه في الجبهة الشعبية الذين اعتلوا الجنان في الأيام الأخيرة، كالمقاومين عمر مناع السد المنيع، والفتى المقدام آدم عيّاد، وجع جبهتنا.
ومن ثم قصد عمرو زاوية جلس بها وأخذ يختم وصيته التي حملت اسمه والشهيد البطل عدي التميمي، وبجانب الاسمين اللذين يفوحان شرفاً خطّ "وصيتي لكم" وبدأ بالبسملة والدعاء الذي لا ينفك لسان حال المقاومين عن ترديده "اللّهم الثبات النصر أو الاستشهاد"، وأوصى بأمه التي تقدمت الجموع حاملة نعشه وسط المقاومين الأبرار، وكذلك أوصى بالوطن، ووجه تحيته للجبهة الشعبية ولفصائل المقاومة، ومضى على درب الشهيد البطل عدي التميمي وأقمار البلاد المحتلة، إلى لقاء بالجنان.
الحلم ذاته الذي كان يتوق إليه الشهيد الشرطي حمدي أبو دية، الذي لبّى النداء، باشتباكه مع جنود المحتل في الخليل، وهو يقتفي خطوات بطل من أبطال عملية الثأر المقدس في 17 أكتوبر/ تشرين الأول، المناضل حمدي قرعان، وفي خضم اشتباكه مع العدو الصهيوني كان يتلو وصيته المكتظة بأحرف العزة، قائلاً "أنتم لكم زناد تضغطون عليه، وبه تدخلون جهنم عبر بوابة الموت التي نضعها لكم، وزنادنا يأخذنا إلى جنات فيها من برتقال يافا وتفاح الجليل".
ولم تنتهِ جرائم المحتل في العام الجديد عند هذا الحد الدموي، فبعد ساعاتٍ نفذ جريمته البشعة في جنين باغتيال المقاوم أدهم جبارين، وجواد بواقنة، أعقبها إعدام طارق معالي في رام اللّه برصاص قطعان المستوطنين، فعزم بعدها عارف لحلوح ابن جنين العزة على تسديد الثأر فأصابته رصاصات الغدر ذاتها التي أصابت صدر الفتى محمد علي إبان تصدي أبطال مخيم شعفاط للمحتل في خضم هدمه منزل الشهيد عدي التميمي.
في ساعات الصباح المظلم في يوم 26 يناير/ كانون الثاني، ودّعت جنين لحدّ لحظة كتابة هذا المقال تسعة شهداء، وكأنّ الدم الذي يمتد في البلاد المحتلة منذ مطلع العام، يأبى إلّا أن يتم تطهيره في مخيم الصمود، حيث المقاومة القابضة على الجمر تتصدّى لإرهابه ومجازره، فيما نحن العاجزون لا نملك سوى صلاة إلى اللّه نقصدها ليحفظ حُرّاس أرضنا وعرضنا، وأن لا يُفجعنا وبلادنا المحتلة برحيل أبطالها إلى سمائها.