يحدث في "الاتحادي الديمقراطي" السوداني
تنشغل الأوساط السياسية السودانية، فيما تنشغل به هذه الأيام، بما يدور من أحداث سياسية ساخنة داخل بيت الحزب الاتحادي الديمقراطي، الذي وصل به الأمر إلى فصل 17 من قياداته التاريخية، لينفرد السيد محمد الحسن الميرغني، نجل زعيم الحزب الغائب ومرشد طائفة الختمية، بإدارة الحزب على هواه، وقيادته، ليدخل به الانتخابات العامة في دوائر محددة، أخلاها له حزب المؤتمر الوطني (الحاكم)، على غير رغبة قواعد الحزب وفروعه في ولايات كثيرة.
كان نجل الميرغني يعيش متنقلاً بين بريطانيا والولايات المتحدة، وعاد، قبل سنوات، ليشغل منصبا في الحزب، ثم غادر البلاد مغاضباً والده والخط السياسي الذي ينتهجه، لكنه عاد، أخيراً، بعد غياب طويل لوالده المريض، ليضع يده على الحزب، ويدخل في خلافات مع معظم قيادات الحزب: طه علي البشير وبخاري الجعلي وعلي السيد المحامي والقيادي التاريخي علي نايل والشيخ حسن أبو سبيب والمهندس محمد فائق. وانتهى به الأمر بفصل 17 منهم، ثم ختم ذلك بتصريح لصحيفة سودانية، قائلا "لقد تخلصنا من الدواعش"!
فتحت هذه الخلافات الباب واسعا لمناقشة أزمة الحزب التاريخية، وعجزه، وغيابه التام عن لعب الدور المتوقع منه، وهو حزب الحركة الوطنية الكبير. وعادت الذاكرة السياسية إلى خلاف وانشقاق كبير، تعرض له الحزب عام 1957، بعد استقلال السودان مباشرة، حين خرجت منه طائفة الختمية، لتؤسس حزب الشعب الديمقراطي، حين واصل الحزب الوطني الاتحادي مسيرته، بقيادة الزعيم الراحل إسماعيل الأزهري.
ولا يختلف المحللون والمؤرخون على أن الحزب الذي نشأ في أحضان مؤتمر الخريجين، الحاضنة الأولى للحركة السياسية السودانية الحديثة، قام، من البداية، على أساس جبهوي كبير بين تيارات وطنية وليبرالية وعروبية، متعددة الخلفيات والمشارب، متحالفة مع طائفة الختمية، بزعامة السيد علي الميرغني. ولم يخل الأمر من وجود خلايا ناصرية وقومية، كانت تعتبر الحزب البيت الكبير الذي تعمل من خلاله قبل خروجها، وتكوين تنظيمات ناصرية وبعثية. وكان الميرغني الكبير يكتفي بدور الراعي والمرشد، ولا يدخل في تفاصيل العمل اليومي للحزب، في حين يترك الأمر لقيادات وطنية ذات وزن ثقيل وحضور جماهيري باهر، إسماعيل الأزهري، إبراهيم المفتي، مبارك زروق، أحمد السيد حمد، عبد الماجد أبو حسبو، وآخرين كثيرين.
ولم يكن غريبا أن يكتسح الحزب الوطني الاتحادي أول انتخابات ديمقراطية في البلاد في فترة الحكم الذاتي (1954)، ويفوز بالأغلبية المطلقة وينفرد، للمرة الأولى والأخيرة في تاريخ السودان، بتشكيل الحكومة. لكن، سرعان ما دب الخلاف داخل الحزب، وخرجت طائفة الختمية بحزبها، الشعب الديمقراطي، برئاسة الشيخ علي عبد الرحمن، وتحالف الحزب الجديد مع حزب الأمة، فأسقط الحكومة من داخل البرلمان، وشكل حكومة ائتلافية، ظلت هي دين الحياة السياسية السودانية، طوال فترات الحكم الديمقراطي الثلاث (1954- 1958)، (1964-1969)، (1985- 1989).
كان الصراع يدور بعنف داخل الحركة الاتحادية بين تيار طائفة الختمية وتيار المثقفين الوطنيين، ومن المدهش أنه، وفي ذلك الوقت المبكر، ومع ضعف حركة التعليم والاستنارة، إلا أن تيار المتعلمين والمثقفين الذي كان يعتمد على الطبقة الوسطى وسكان المدن استطاع أن يحقق نجاحات باهرة في معركته ضد الطائفية السياسية.
ويذكر كتاب التاريخ انتصار الإداري الفذ والقيادي الوطني، نصر الدين السيد مرجان، وللاسم دلالته العرقية التي كانت تستخدم لتحقيره، في دائرة الخرطوم بحري معقل الختمية، على مرشح الطائفة الشيخ علي عبد الرحمن الضرير، وللاسم أيضا دلالته الرمزية الكبيرة والتاريخية.
عادت الحركة الاتحادية بجناحيها لتتوحد عام 1968، تحت مسمى الحزب الاتحادي الديمقراطي. لكن، بعد عام، حدث انقلاب الرئيس الأسبق جعفر نميري، والذي استمر 16 عاماً، وتم حل كل الأحزاب، حتى عادت بعد انتفاضة إبريل/نيسان 1985، لكن الحزب الاتحادي الديمقراطي لم يعد كما كان.
عاد الحزب ضعيفاً ومهلهلاً، رحلت كل الرموز التاريخية، تولى السيد محمد عثمان الميرغني إدارة الحزب بالكامل، لم يعقد الحزب مؤتمراً واحداً، بل ظلت قياداته وتكويناته التنظيمية تتوالى بقرارات منفردة من الميرغني، فتراجع في انتخابات عام 1986، ليحل ثانياً بعد حزب الأمة، ويدخل شريكاً ضعيفاً في الحكومات المتوالية. وشهد الحزب انشقاقات كثيرة، لم تفلح في تكوين مركز بديل، بل تعرضت، هي الأخرى، لتشظيات نووية.
ودخل الحزب تجمع المعارضة ضد نظام الإنقاذ، وساهم هذا التحدي في إخفاء بعض الخلافات لوقت ما، لكنها سرعان ما عادت إلى العلن بعد عام 2005.
يوجد، الآن، ما لا يقل عن ثمانية أحزاب، تحمل مسمى الاتحادي، تتوحد أحياناً، وتتناسل أحايين أخرى، ليخرج منها شكل جديد. تتفق جميعها في افتقاد الرؤية والبرنامج وغياب الرموز والقيادات الكبيرة والمؤثرة، حتى صارت قواعد الحزب كالأيتام على مائدة اللئام، عرضة للنهش والبيع والإيجار والتسويق. هناك أحزاب اتحادية مع الحكومة، وأحزاب أخرى ضدها، وبعضها لا يعرف له موقع أو موقف. حتى الحزب الاتحادي الأصل، برئاسة الميرغني، يشارك في الحكومة بثلاثة وزراء، وكذلك في الحوار الوطني، لكن موقف قياداته وكوادره الجماهيرية غالباً ما تصطف مع المعارضة.
وإذا كان انعدام المؤسسية هو الداء الذي يشل الحياة السودانية كلها، فإن الأمر في ما يتعلق بالحزب الاتحادي الديمقراطي صار مرضاً مزمنا، إذ لا يُعرف للحزب هيكل تنظيمي، ولا لوائح عمل معلومة. ويظهر أشخاص في مواقع مختلفة، مثل الناطق الرسمي، أو أمين التنظيم، بين كل حين وآخر، من دون سابق إخطار، أو إعلان بتغيير صاحب الموقع القديم.
يرى سودانيون كثيرون أن وضع الحزب الاتحادي هو تيرمومتر للحياة السياسية السودانية وواقعها المأزوم، وأن صلاح الحزب سينعكس إيجاباً على الوضع السياسي السوداني كله. وفي المقابل، يرسم الوضع الحالي صورة مأساوية لوضع البلاد كلها. لهذا، ينظرون إلى وضع الحزب الاتحادي، ويضعون أيديهم على قلوبهم، وينتظرون أملاً ما، ... لعل وعسى.