السودان.. انتخابات بلا ناخبين
كان السودانيون، طوال الأسبوع الماضي، يسألون سؤالاً واحداً لكل من يقابلونه "بتعرف واحد مشى صوت؟"، أي هل تعرف شخصاً ذهب إلى مركز الاقتراع، ليدلي بصوته؟ وكانت الإجابة في أحيان كثيرة بالنفي، وفي قليل منه "والله بعرف واحد قال أخوه مشى صوت". وقد بلغت السخرية بفنان الكاريكاتير، فارس، أن نشر رسماً يتحدث فيه مواطن لآخر "واحد صاحبنا قال ابن خالة جدته بيعرف واحد قال جارهم صوت".
ولا يجمع السودانيون على شيء مثل إجماعهم على أن هذه كانت أكثر الانتخابات سرية، وأقلها إقبالاً في تاريخ السودان، على الرغم من أن الانتخابات كانت معلنة بالطبع وتتسيد نشرات الأخبار في القنوات الرسمية وعناوين الصحف أكثر من شهر. وكان التلفزيون الرسمي يذيع تقارير يومية عن "إقبال كبير" من المواطنين على الإدلاء بأصواتهم، على الرغم من أن الكاميرات تتجنب تصوير مراكز الاقتراع، وتكتفي بصورة المذيع، وهو يستضيف أحد الناخبين أو موظفي مراكز الاقتراع. وصارت السيدة "إقبال كبير" أيضا شخصية كاريكاتورية في وسائل الإعلام الاجتماعي، يسخر منها الناشطون والمدونون.
وفي حين لم تعلن المفوضية القومية للانتخابات، رسمياً، عدد الناخبين الذين أدلوا بأصواتهم، إلا أن رئيسها، مختار الأصم، أعلن أن إحصاءاتها تشير إلى مشاركة أكثر من أربعة ملايين من الناخبين المسجلين، وعددهم يزيد على 13 مليوناً، وقال إن النسبة المتوقعة ستتراوح بين 35% إلى 40%، بينما تقول أحزاب المعارضة إن النسبة الحقيقية لا تتجاوز 15% إلى 20%. وبحسب المفوضية، فإن 44 حزباً مسجلاً شاركت في الانتخابات، لا يعرف السودانيون منها غير حزب المؤتمر الوطني الحاكم، وجناح من الحزب الاتحادي الديمقراطي، يقوده الحسن الميرغني نجل زعيم الحزب. وقاطعت معظم قيادات الحزب وجماهيره الانتخابات، وكذلك حزب الأمة بقيادة الصادق المهدي، والمؤتمر الشعبي بزعامة حسن الترابي. وقاطعتها أحزاب قوى الإجماع الوطني المعارضة، وتتكون في معظمها من أحزاب يسارية وليبرالية وقومية، وأحزاب إسلامية منها منبر السلام العادل الذي يقوده المهندس الطيب مصطفى، خال الرئيس عمر البشير، وحركة الإصلاح الآن، بقيادة الوزير السابق غازي صلاح الدين.
وخاض الانتخابات الرئاسية 15 مرشحاً، يتقدمهم البشير، وفشل السودانيون في التعرف إلى بقية المرشحين، وجلهم من الهواة وطالبي الشهرة. وتتوقع كل التقديرات فوز الرئيس عمر البشير بنسبة لا تقل عن 95% من جملة من أدلوا بأصواتهم في الانتخابات التي لم تشهد حماسا إلا في دوائر قليلة شهدت وجود منافسين مستقلين أقوياء لمرشحي المؤتمر الوطني، أو بسبب الصراعات القبلية والإثنية فيها.
وكانت أحزاب المعارضة قد نظمت حملة مضادة للانتخابات، شعارها "ارحل"، إلا أن معظم المراقبين يجمعون على أن فعل المقاطعة العفوي من الناخبين لهذه الانتخابات تجاوز تأثير أحزاب المعارضة وحملتها، وصدر عن زهد حقيقي في العملية السياسية، وتعبير عن غضب مكتوم من الحالة العامة في البلاد. وغاب عن الانتخابات مراقبة منظمات المجتمع المدني المحلية المستقلة، بجانب المنظمات الدولية ذات الخبرة والتجربة، والتي كانت عماد المراقبة في انتخابات عام 2010. وشاركت منظمات محسوبة على الحكومة وحزبها، بجانب مراقبين من الاتحاد الإفريقي وجامعة الدول العربية ومنظمة دول شرق ووسط إفريقيا (إيقاد).
وكانت معظم الأحزاب والقوى السياسية ترى أن المناخ العام في البلاد لا يساعد على إجراء الانتخابات، خصوصاً بعد اعتراف الحكومة بمناخ الأزمة السياسية ودعوتها إلى الحوار الوطني، والتي تعثرت بسبب مقاطعة قوى الإجماع التي وضعت شروطاً لم تستجب لها الحكومة، ثم انسحاب قوى أخرى شاركت، في البداية، مثل حزب الأمة وحركة الإصلاح الآن ومنبر السلام و14 حزباً صغيراً لقناعتها بعدم جدية الحكومة. وعلى الرغم من التزام حزب المؤتمر الشعبي بالاستمرار في الحوار، إلا أنه قاطع الانتخابات التي صرح بعدم جدواها، قبل الوصول إلى نتائج ملموسة للحوار.
ويعتبر كثيرون أن العملية الانتخابية شكلت هزيمة سياسية قاسية لحزب المؤتمر الوطني الحاكم الذي ظل يصرح أن عضويته الملتزمة تبلغ ستة ملايين شخص، غاب أكثر من ثلثهم، بحسب الأرقام الرسمية، وثلثاهم بحسب مصادر أخرى، عن المشاركة في العملية الانتخابية. وعلى الرغم من أن الرئيس البشير سيفوز قطعاً بنسبة لن تقل عن 95% إلا أن الأرقام تقول إن ثلث العضوية الملتزمة لحزبه، إن صحت الأرقام، لم تذهب لتصوت له. وكان البشير قد حصل على نسبة تقارب 68 % في انتخابات عام 2010، لكن عدد من صوتوا له كانوا قرابة سبعة ملايين ناخب. وقد تبرع حزب المؤتمر الوطني بنسبة من الدوائر لأحزاب حليفة خاضت الانتخابات، حيث أخلى دوائر، ووجه ناخبيه بالتصويت لمرشحي هذه الأحزاب، إلا أن مرشحين فشلوا في الحصول عليها، بسبب منافسة المرشحين المستقلين لهم.
لم يعترف الحزب الحاكم بالتأكيد بالهزيمة السياسية، ويجد المبررات لضعف نسبة الناخبين لغياب المنافسة وضمان جماهيره فوز الحزب، بما أقعدها عن المشاركة في الانتخابات. لكن، من المؤكد أن تفاعلات كثيرة تمور داخل الغرف المغلقة. والمؤكد أن قناعة بعض قياداته، بمن فيهم الرئيس البشير، بحجم الحزب وقدرته على التأثير ستهتز، وهو ما يراهن عليه متفائلون، ومنهم حزب الترابي، ويجعلهم يعتقدون أن البشير قد يجري تغييرات كبيرة، وربما يكون أكثر إدراكا الآن لحجم الأزمة السياسية في البلاد، وأكثر قابلية لتقديم تنازلات حقيقية.
المؤكد أن قبضة الرئيس البشير على السلطة ستزداد، وأن اعتماده على الحزب وقياداته سيقل. لكن، ليس من مؤشرات، غير التمني، تؤكد اتجاهه إلى الانفتاح. وربما يزداد اعتماده أكثر على الجيش والأجهزة الأمنية وقلة من قيادات استمرت معه طوال سنوات حكمه، ويصبح التنبؤ بمسار الأحداث في البلاد رهناً لرؤيته ومزاجه العام الذي لا يعرفه أحد.